أخطاء صيرفة ومخاطر بلومبرغ
Spread the love

تَدخُل مصرف لبنان في سوق القطع أو الصرف قبل إنشائه منصة صيرفة كان يتم بصورة تلقائية، من خلال شراء او بيع العملات الصعبة للحد من تقلبات سعر صرف العملة الوطنية. وأسواق الصرف لا تنحصر في مكان محدد، بل تتشكل من المؤسسات المصرفية والمالية والصيارفة وغيرهم من العملاء، وتلعب المصارف دور قناة الاتصال فيما بينها وخاصةً مع مصرف لبنان. الامر الذي أصبح متعذراً مع انعدام الثقة بالقطاع المصرفي الذي تقلص دوره الائتماني واقتصرت نشاطاته على تنفيذ تعاميم مصرف لبنان.
والى أن أطلق منصة صيرفة، كان مصرف لبنان لا يزال يعتمد في تدخله في سوق القطع على الوسائل التقليدية (تحديداً مع الجمهور)، من دون تطويرها باستخدام المنصات الرقمية وتقنياتها الحديثة، التي تسمح للمتعاملين بمتابعة كافة المعطيات المتعلقة بسوق القطع المحلية والخارجية لحظةً بلحظة. وذلك على الرغم من التطور الكبير الذي عرفته تكنولوجيا الاتصالات منذ ما يزيد على الربع قرن، ودخولها في صلب الاعمال المالية مع ما وفرته للمتعاملين من معلومات آنية (Real time information) عن الأسواق ومن سرعة وسهولة في التداول.
ولولا تعثر المصارف وخسارتها دور الوسيط الموثوق، وحاجة مصرف لبنان لقناة اتصال بديلة بالأسواق النقدية والمالية، لما أطلق منصة صيرفة في حزيران من العام 2021. وبينما كان من المفترض أن تتوفر في المنصة معايير الآنية (Real time) والشفافية، أدى تحديد مصرف لبنان لسعر الصرف وعجزه عن المحافظة عليه، وعدم جعل المنصة صلة وصل طبيعية وتلقائية بين مصرف لبنان والأسواق النقدية والمالية، مؤشراً على فشل المنصة في تحقيق الهدف البديهي منها الا وهو تحقيق استقرار سعر الصرف.
ولم تكن أسباب فشل منصة صيرفة تقنية او لنقص في معطياتها، بقدر ما كانت في توقيت انشائها وفي طريقة ادارتها. ذلك أن تحقيق استقرار سعر الصرف يتطلب تدخل المصرف المركزي في سوق القطع بما يتناسب مع حجم الطلب على القطع الأجنبي، في حين أن مصرف لبنان أطلق المنصة بعد أن كان قد استنفد الجزء الأكبر من احتياطاته من العملات الأجنبية من خلال دعم الاستيراد وتحويلات المحظيين من ذوي النفوذ الى الخارج.
وعوض أن تكون صيرفة منصة لتداول العملات الأجنبية بيعاً وشراءً، أضحت منصةً لبيع هذه العملات بسعر يُحدده مصرف لبنان وليس العرض والطلب، في حين كان يشتري هذه العملات من السوق الموازية وبالسعر السائد فيها، الامر الذي تسبب باستنزاف ما تبقى من أموال المودعين. ولولا حاجة المصرف المركزي لمبرر لاستمرار صيرفة لما وسّع خدماتها لتشمل رواتب موظفي القطاع العام ورواتب المتقاعدين.
وكان البنك الدولي قد اعتبر في تقريره حول لبنان لربيع 2023، أن منصة صيرفة أضحت أداةً نقدية غير مناسبة لتحقيق استقرار سعر الصرف الذي يشهد تقلبات كبيرة خلال فترات قصيرة على حساب وضع مصرف لبنان المالي وعلى حساب احتياطاته. كما يعتبر ان صيرفة تحوّلت إلى وسيلةٍ بيد بعض المتعاملين لتحقيق الأرباح من فارق أسعار صيرفة وأسعار السوق الموازية، ويرجح تحقيقهم أرباح ربما بلغت 2.5 مليار دولار جرائها.
ويأتي إقرار حكومة تصريف الاعمال خلال جلستها المنعقدة في 7 أيلول 2023، اعتماد منصة Bloomberg كبديل عن صيرفة، بناءً على طلب حاكم مصرف لبنان بالإنابة، في أطار محاولة من الأخير لاعتماد منصة تتمتع بالشفافية والصدقية اللتين تفتقد اليهما منصة صيرفة. على أن يقتصر دور مصرف لبنان من خلالها على مراقبة حركة سوق القطع وضبط الإيقاع فيه للحد من التقلبات الحادة في سعر الصرف جراء المضاربات التي قد تحصل من وقت إلى آخر.
في المقابل، يلفت أمين عام جمعية مصارف لبنان فادي خلف، في افتتاحية شهر أيلول الحالي لنشرة جمعية مصارف لبنان الشهرية، إلى امكانية اعتماد بورصة بيروت بدلاً من منصة Bloomberg. سيما وأن بورصة بيروت تعمل بنظام تداول عالمي، وهي قادرة على تأمين التداول بالدولار بسهولة وشفافية وخلال فترة قصيرة نسبياً. وبورصة بيروت، بحسب فادي خلف، موصولة بالعدد الاكبر من المصارف التي يُلم موظفوها بتقنيات البورصة ومتطلباتها، ما يسمح باختصار المهلة الزمنية اللازمة للمباشرة باستخدامها.
الا أن الصعوبات والعراقيل التي قد واجه اعتماد مصرف لبنان منصةً جديدة لسوق لقطع، لا تختلف عن تلك التي اعترضت منصة صيرفة لجهة تقيُد المتعاملين في سوق القطع بتنفيذ عملياتهم من خلال المنصة الجديدة. وخاصة في ظل عجز الدولة بأجهزتها القضائية والأمنية عن فرض التقيد بتداول العملات الصعبة من خلال المنصة المعتمدة، وملاحقة المخالفين منهم وتغريمهم بما بتناسب مع حجم مخالفاتهم. وهذا أمر لا يزال بعيد المنال لا بل يزداد ابتعاداً.
ولن تكون أي منصة جديدة بمنأى عن الصعوبات التي اعترضت عمل صيرفة، ولعل أهمها مسألة قدرتها على عرض ما يكفي من العملات الأجنبية لتلبية طلب المتعاملين. ومن العراقيل ايضاً مسألة تهرُب المتعاملين من تجار وغيرهم، من اعتماد المنصة الجديدة لإخفاء حجم عملياتهم التجارية وبالتالي تفادي ما قد يترتب عليهم من رسوم وضرائب. أما العقبة الأساسية فتكمن في انهيار القطاع المصرفي وتخليه عن دوره الائتماني والاستثماري، في الوقت الذي تحتاج فيه هذه المنصة الى قطاع مصرفي موثوق ويتمتع بالملائة المناسبة.
والاهم من المنصة الجديدة هو تحديد الأهداف المرجوة منها، لا سيما السياسات النقدية الواجب اتباعها لتحقيق الاستقرار النقدي والمالي. خاصةً وأن مصرف لبنان عجز عن وقف انهيار العملة الوطنية، وفشلت السياسات التي ابتدعها في الحد من تدهور سعر الصرف (التعاميم وتعدد أسعار الصرف وغيرها …). ما يجعل من تحرير وتوحيد سعر الصرف هدفاً ممكن التحقيق، إذا ما أراد القيمون على السلطة النقدية الاستفادة من الاستقرار النسبي الذي يشهده سعر الصرف خلال الآونة الأخيرة.
والتحدي الأكثر حساسية لأي منصة جديدة يكمن في سعر القطع الذي يجب اعتماده عند انطلاقتها، إذ أن اعتماد سعر منصة صيرفة سيُبقي القديم على قِدمه فيما المطلوب استحداث مقاربة جديدة تسمح في الوقت عينه بتوحيد سعر الصرف وتأمين استقراره. خاصةً وأن الاستقرار الحالي لسعر الصرف يعود بالإضافة الى وفرة الدولار، الى مهادنة المضاربين على الليرة اللبنانية الذين يبدوا انهم معنيون بنجاح الدكتور منصوري على رأس حاكمية المركزي، الامر الذي يجعل الظرف مؤاتٍ لتحرير الليرة واعتماد سعر وحيد تُحدده آليات العرض والطلب.
ويتوقف نجاح المنصة الجديدة على تحرير سعر صرف العملة الوطنية، الذي يُنهي حالة الفوضى السائدة حالياً في سوق الصرف، ويُحرر مصرف لبنان من اعباء التدخل في سوق القطع إلا في حال تخطى سعر الصرف مستوياتٍ معينة. واقتران تحرير أسعار الصرف مع استقرارها يُشكل شرطا من شروط تحفيز النشاط الاقتصادي، الذي انحسر الى أدني مستوياته بسبب تعدد الأسعار وتقلباتها الحادة.
وتجدر الإشارة الى أن المخاطر التي يُمكن أن تنتج عن تحرير سعر الصرف لا تتعلق بدولرة الاقتصاد من عدمه، إذ أن الدولرة حدت من الطلب على اعمال الصرافة وحدت بالتالي من فرص المضاربة على العملة الوطنية. في الوقت الذي توفر فيه تحويلات المغتربين ونفقاتهم خلال تواجدهم في لبنان، كميات من العملات الصعبة كافية لتأمين توازن السوق النقدية. أما رواتب كل من موظفي ومتقاعدي القطاع العام وجزء كبير من موظفي القطاع المدولرة، فسيف ذو حدين يُخفف الضغط على الليرة عند دفعها ويزيد منها عند إعادة جمعها.
ويحتاج تحرير سعر الصرف إلى استقرار سياسي من ناحية، ورؤية اقتصادية تُحدد الملامح المستقبلية للتوجهات المالية والنقدية للدولة من ناحية ثانية. سيما وأن لتحرير سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية مضاعفات اقتصادية، تتطلب ملاقاتها من قبل حكومة تصريف الاعمال ببرامج تُشجع الإنتاج المُعد للتصدير سواء كان صناعياً ام زراعياً، أو غيرها من البرامج المحفزة للاستثمارات المحلية والاجنبية.
ولا بد من المفاضلة بين مدى الحاجة الى اعتماد منصة جديدة تُحرر العملة الوطنية وتوحد سعر الصرف، وبين المخاطر التي قد ينطوي عليها اعتماد منصة صرافة دولية مهما تمتعت بمعايير الشفافية. فقد كان من الممكن تطوير منصة صيرفة واعتماد معايير الحوكمة الرشيدة والشفافية في ادارتها بدلاً من التخلي عنها، او اعتماد بورصة بيروت لتحل مكان صيرفة مع ما يعنيه ذلك من إعادة تفعيل لدور بيروت وبورصتها في السوق المالية والنقدية.
أما اعتماد منصة دولية على غرار منصة Bloomberg، فيطرح مسألة مراقبة مصرف لبنان عمل المنصة وتقلبات أسعار الصرف المسجلة عليها من ناحية، وقدرته على التدخل والحد من تقلباتها في حال حصولها إذا ما رغب في ذلك. وإذا كان القيمون على السلطة النقدية يريدون التخلص من منصة صيرفة ومن أخطائها وخطاياها، فالخشية أن يكون ثمن تخلصهم من صيرفة أفدح من الإبقاء عليها بعد تطويرها.
وبعد أن تخلى المسؤولون اللبنانيون عن اعتماد العملة الوطنية، وما تُمثله من رمز لسيادة الدولة، في تسعير السلع والخدمات وصولاً الى الرواتب وذهبوا الى الدولرة، فهل يتخلى هؤلاء عن سيادة لبنان على اسواقه النقدية والمالية ويذهبون الى تلزيمها الى منصاتٍ خارجية؟

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات