إضاءة على تقرير الفاريز ومارسال
Spread the love

في الوقت الذي لم يأتِ التقرير الاولي للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، الذي أجرته شركة ألفاريز ومارسال (Alvarez & Marsal) بمعطيات جديدة حول مخالفات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خلال الفترة موضوع التدقيق، اقتصر هذا التدقيق على خمس المدة الزمنية من ولاية الأخير في سدة الحاكمية. فيما تفاوتت قراءات التقرير واختلفت تفسيراته باختلاف أهداف أصحابها، وهي جاءت في معظمها لتؤكد على مقولة النائب والوزير السابق الراحل الياس سابا الشهيرة، وهو الخبير بالأرقام اللبنانية، “أن الأرقام في لبنان وجهة نظر”.
فعلى الرغم من أن التقرير يتضمن معطيات رقمية يصعب تأويلها، الا أن هذا لم يمنع البعض من تناول هذه الأرقام انطلاقاً من مصالحهم دون مراعاة الحد الأدنى من الموضوعية التي يجب التقيد بها عند تناول تقرير مماثل بالتحليل والنقد. سيما وأن التقرير على درجة عالية من الحساسية التي تعود الى تناوله واحداً من اهم المرافق العامة الا وهو مصرف لبنان، وهو يتمتع بأهمية خاصة لما يتضمنه من تشخيص لأسباب الازمة ليصار في ضوئه الى وضع الحلول المناسبة.
وقبل تحليل التقرير والاضاءة على بعض ما جاء فيه، لا بد من التوقف عند مدلولات لائحة التحويلات المالية الى شخصيات ومؤسسات، والتي إن دلت على شيء فهي تدل على تفرد الحاكم باتخاذ قرارات الشراء والبيع وتقديم الهدايا وعقد الصفقات وتوزيع التبرّعات، وكأن مصرف لبنان آل اليه عن طريق الإرث. مع العلم أن هذه التصرفات تنطبق على معظم رؤساء الادارات والمؤسسات العامة الذين يتفردون بالقرار ويتصرفون بمقدرات اداراتهم ومؤسساتهم بحسب مصالحهم ونزواتهم، غير ابهين بالقوانين والأنظمة المرعية الاجراء، حيث أضحت هذه التصرفات سبباً أساسياً من أسباب تعثر القطاع العام ومؤسساته.
أما التقرير فيتألف من 331 صفحة موزّعة على اثني عشر باباً بالإضافة الى المقدمة والملخص التنفيذي، فيما يقتصر التدقيق على الفترة الممتدة بين العام 2015 ونهاية العام 2020، وخلُص الى إظهار ثغرات جذرية في آلية عمل مصرف لبنان وسوء إدارته طوال ست سنوات. الا أنه جاء مخيباً لآمال اللبنانيين الذين يُعانون من وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، باعتباره وثق المعلومات المعروفة من معظم المتابعين من دون أن يكشف النقاب عن مصير الودائع التي أهدرت وسرقت خلال تلك الفترة.
في المقابل وعلى الرغم مما تقدم، وعلى الرغم من قصر الفترة الزمنية التي تناولها التدقيق، تكمن أهمية التقرير في تناوله فترة مفصلية شهدت احداثاً نقدية ومالية محورية، بدأت مع تراكم الخسائر التي لحقت بحساب رأس مال مصرف لبنان وحولته من حساب يحقق أرباحاً الى حساب يسجل عجزاً. وشهدت الفترة عينها تنفيذ الهندسات المالية مع المصارف التجارية، بالإضافة الى التخلف عن تسديد سندات اليوروبوند في آذار 2020، وصولاً الى انهيار العملة الوطنية الذي شكل أحد أبرز تجليات الازمة.
ذلك أنه خلال الفترة الممتدة من العام 2015 وحتى العام 2020، تدنّت موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية، حيث انتقلت وضعية المصرف من فائض في العملات الأجنبية قدره 10.7 تريليون ليرة لبنانية (7.2 مليار دولار أميركي) إلى عجز في هذه العملات قدره 76.4 تريليون ليرة لبنانية (50.7 مليار دولار أميركي). ويكاد يكون الكشف عن هذه الواقعة، أي تبديد مصرف لبنان 87,1 تريليون ليرة لبنانية (57,9 مليار دولار اميركي)، الإنجاز الأهم لهذا التقرير.
ويكشف التقرير عن الكلفة الباهظة التي تكبدها مصرف لبنان جراء الهندسات المالية والتي بلغت 115 ترليون ليرة لبنانية (76,3 مليار دولار أميركي)، في الوقت الذي كان حاكم مصرف لبنان يحرص على إخفائها من خلال “هندسات محاسبية” استُخدمت لغير الغرض الذي وجدت لأجله. فلقد استخدم مصرف لبنان معايير محاسبيّة غير تقليدية لإعداد بياناته المالية بهدف إظهار أرباح تشغيلية مزعومة، الا أنه فعل ذلك دون التزامه معايير الشفافيّة التي تُعطي مصداقية لهذه البيانات.
وعلى أهمية كشف التقرير عن نتائج الهندسات المالية وكلفتها المرتفعة، إلا أن المطلوب أن يكشف التدقيق الجنائي عن الجهات المستفيدة منها. ما يستدعي التدقيق الجنائي في حسابات المصارف للكشف عن كيفية توزيع الأرباح التي حققتها جرّاء مشاركتها بالهندسات المالية التي اجراها مصرف لبنان، وصولاً الى الكشف عن المستفيدين من الفوائد المرتفعة والمبالغ التي تقاضوها بالإضافة الى تحديد حجم العمولات والمكافآت التي حصل عليها مديرو المصارف الذين سوقوا لهذه العمليات.
ومن الممارسات المحاسبية التي كشف عنها التقرير واعتمدها مصرف لبنان لإخفاء حقيقة وضعه المالي، لجوئه الى تأجيل تسجيل كلفة الفوائد المرتفعة لزيادة الربحية بشكل وهمي في البيانات المالية. وكذلك الحال بالنسبة الى خلقه حسابات لتسجيل أرباح سكّ العملة لتغطية الخسائر وزيادة الربحية. والامر عينه ينطبق على عدم احتساب التراجع في قيمة سندات الدين الحكومية ما أدى الى تضخيم قيمتها. بالإضافة الى تسجيل ارتفاعات او انخفاضات غير محقّقة في حساب الذهب في الميزانية، الامر الذي تسبّب في تضخيم او تقليل قيمة أصول ورأس مال المصرف.
وبذلك يكون تقرير ألفاريز ومارسال قد كشف عن المركز المالي الحقيقي لمصرف لبنان، بعد سنوات من الإخفاء الممنهج لحقيقة هذا المركز وغيره من المعطيات عن الرأي العامّ، بل وممارسة التضليل في البيانات والتغيير في والموازنات. وجاءت هذه النتائج على الرغم من المعوقات والعراقيل التي أثارها مصرف لبنان في وجه المحققين وشركة التدقيق، والامتناع عن التعاون المطلوب لإنجاز التدقيق بالشكل المناسب. حيث زوّد المصرف الشركة ببيانات غير منسّقة (unformatted)، تقتصر على نصوص من دون جداول رغم أنها معطيات رقمية، ما استدعى إنشاء قاعدة بيانات جديدة لها.
وقد تذرع مصرف لبنان بقانون السرية المصرفية لتبرير اجتزاء بيانات التحويلات المالية SWIFT)) قبل تسليمها لشركة التدقيق، مما حدّ من قدرة التحقيق على تحديد المستفيد النهائي من هذه التحويلات. وذلك على الرغم من صدور القانون رقم 200 تاريخ 29 كانون الأول 2020، الذي علق العمل بأحكام قانون السرية المصرفية لمدة عام، لتسهيل ولوج التدقيق الى ما يحتاجه من معلومات ومعطيات توصلاً الى الخلاصات المناسبة.
واعتبر التقرير أن السلطة المركزة بين يدي حاكم مصرف لبنان والتي تمارس من قبله، سلطة غير خاضعة للرقابة إلى حد كبير وتتفوق على غيرها من تلك التي يتمتع بها غيره من حكام البنوك المركزية في العالم، فيما المراقبة غير كافية والمساءلة والمحاسبة ممنوعة عنه. الامر الذي يُفسر غياب الحوكمة الرشيدة بشكل عام وعدم كفاية الاجراءات المتعلقة بإدارة المخاطر في مصرف لبنان، ما يستوجب تحسين الرقابة للحد من المخاطر المالية المحتملة مستقبلاً قد تتسبب بها سلوكيات القيمين على المصرف المركزي.
ورغم خطورة المخالفات التي كشف عنها التقرير والتي أقدم عليها الحاكم السابق لمصرف لبنان، وعلى الرغم من فداحة الخسائر التي بينها والتي تسببت بها سياساته التي بددت الاحتياطات من العملات الاجنبية وتسببت بها الهندسات المالية خلال الفترة موضوع التدقيق، يُشكل كشف التقرير عن تحويل “عمولات غير قانونية” بلغت 111 مليون دولار الى ستة مصارف لبنانية ومصرف في سويسرا (HSBC Private Bank)، بالإضافة الى تحويلات بلغ مجموعها خلال فترة التدقيق 98,8 مليون دولار أميركي الى حساب رياض سلامة في مصارف خارجية مختلفة، دليلاً على تطاوله على المال العام وإدانة للسياسات التي اعتمدها، على الاقل خلال الفترة الأخيرة من مدة ولايته.
في المقابل وفي ضوء المعطيات التي تمخض عنها تقرير ألفاريز ومارسال، ثمة أسئلة تفرض نفسها حول تغاضي الحكومات المتعاقبة عن امتناع مصرف لبنان عن نشر البيانات المفصّلة للمركز المالي او ما يُعرف بالــ (balance sheet) وحساب الأرباح والخسائر(P&L) وبيانات التدفّقات المالية إضافة الى التغيّر في حقوق الملكية، بشكل منتظم ووفق ما يقتضيه قانون النقد والتسليف. وهي معطيات يُفترض بحسب القانون النقد والتسليف أن يحصل عليها أيضاً أعضاء المجلس المركزي وخاصة مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، للقيام بدورهم الرقابي من خلال تقييم نتائج القرارات والإجراءات السابقة واقرارا استمرار العمل فيها او تعديلها وتطويرها.
وتكمن اهمية التقرير، على الرغم من عدم اكتمال معطياته بسبب المعوقات التي أثيرت بوجه شركة التدقيق، في أنه ازاح الستار عن رأس جبل الجليد الذي طالما تلطى خلفه الحاكم السابق لمصرف لبنان واضاء على الأحجيات التي اختبئ ورائها. ويبقى التقرير ابعد من أن يكون تقريراً جنائياً، لعدم تتبعه الخسائر التي تسببت بها الهندسات المالية وتحديد المستفيدين منها وتلك التي أهدرها مصرف لبنان من موجوداته من العملات الأجنبية خلال فترة التدقيق.
وتقتضي المسؤولية الابتعاد عن الاعتبارات الفئوية والشخصية عند تحليل التقرير، والتطلع الى كيفية حماية لبنان واللبنانيين من الوقوع مجدداً ضحية السياسات غير المتوازنة، وهو امر لن يتحقق ما لم يخضع كل من يتولى مسؤولية عامة للمساءلة والمحاسبة، لا سيما منهم من يظنون أنفسهم أنصاف آلهة فيما الوقائع تلفظهم الى مزبلة التاريخ.
وحماية لبنان واللبنانيين تبدأ بالعودة الى احترام احكام الدستور والتقيد بمندرجاته لا سيما لجهة انتخاب رئيس للجمهورية، وامتثال المسؤولين لموجبات القانون والانتظام العام. خاصة وأن استمرار الشغور في رئاسة الجمهورية وحكومة تصريف اعمال غير مكتملة الصلاحيات، يزيد من هشاشة الدولة ومؤسساتها التي تفرغ يوماً بعد يوم من قادتها ومديريها العامين على غرار ما حصل مع حاكمية مصرف لبنان، ويُسرّع من تلاشي سلطة الدولة ويُهدد الاستقرار الوطني ومستقبل البلاد والعباد.

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات