الاستقامة هي السلوك الثابت الذي لا يخضع للمتغيرات من حولنا, أو بمعنى آخر قهر النفس وردعها وتعويدها على الانضباط الروحي الإيماني الذي يرفعنا لنسمو أخلاقيا بأفعالنا في السر والعلن, لنكون قدوة لغيرنا ونساهم في التغيير التدريجي بمده المرحلي وخلق محيط للوعي المجتمعي, ومد جسور الفكر الأخلاقي البناء البعيد عن التطرف والغلو, المشبع بالوسطية النافعة المسهلة لتقبل الحوار والنهي عن المنكر, كذلك هي إتباع الصراط المستقيم ، وتعاليم الدّين الإسلامي الحنيف دون تهاون أو خلخلة أو تقاعس, و الإقبال على الطاعات واجتناب المحرمات، تحصينا لنا من الآثام والتقاعس عن أداء الفروض والطاعات المقربات المنجيات, وربط اتصال دائم مع الله , الشيء الذي يجعلنا في راحة واطمئنان والإحساس بنشوة الانتصار على النفس والشيطان, لنخلق أجواء من السعادة ثنائية الأبعاد التقرب من الله والفوز برحمته ورضوانه و استمالة الفرد والمجتمع و دفعهما بالتي هي أحسن نحو الرقي الأخلاقي, وبالتالي الانصهار في نهضة أخلاقية اجتماعية سياسية تنموية مساعدة على الثبات الروحي, الذي يعتبر مدخلا وبوابة للاستقرار الأمني للبلاد والعباد, وهذا لا يتأتى إلا بإخلاص النية مع الله.
لكن هناك خطر داهم قد ينسف أسس الاستقامة ويقلبها رأسا على عقب, وهو الغرور لأنه مدخل للشيطان ونزغاته, باعتباره سلوك سيئ يعكس الكبرياء والمبالغة في الثقة بالنفس, يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في قصته مع شارب الخمر, “قلت لرجل تعوّد شرب الخمر ,ألا تتوب إلى الله ؟ فنظر إلىّ بانكسار، ودمعت عيناه، وقال ادع الله لي ..تأملت في حال الرجل، ورق قلبي ..إن بكاءه شعور بمدى تفريطه في جنب الله ..وحزنه على مخالفته، ورغبته في الاصطلاح معه ،إنه مؤمن يقينا، ولكنه مبتلى! وهو ينشد العافية ويستعين بيَ على تقريبها ..قلت لنفسي قد تكون حالي مثل حال هذا الرجل أو أسوأ!! صحيح أنني لم أذق الخمر قط، فإن البيئة التي عشت فيها لا تعرفها ،لكنّي ربما تعاطيت من خمر الغفلة ما جعلني أذهل عن ربي كثيراً وأنسى حقوقه ،إنه يبكي لتقصيره،،،، وأنا وأمثالي لا نبكي على تقصيرنا، قد نكون بأنفسنا مخدوعين .وأقبلت على الرجل الذي يطلب مني الدعاء ليترك الخمر ،قلت له تعال ندع لأنفسنا معا “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” الأعراف الآية 23″. ما أجمل التواضع لله, إنه جائزة تمسكنا بديننا والإستماتة في السير على هذا النهج المبارك الذي يدخلنا في زمرة عباد الله الصالحين, ومن تواضع لله رفعه وصحح بوصلته وسدد رميه.
لذلك فلا نظن و لا نعتقد أن الاستقامة على الحق إنجاز شخصي, إنما هي هبة من الله ورحمة ورزق رزق بهما عباده, قد تسلب منهم في أي لحظة, قد نكون مخدوعين تجارينا الدنيا بمتغيراتها المادية مع إننا في المركز الثابت, فنغفل لنجد أنفسنا قد خرجنا عن الطريق في انحرافات ولدت صغيرة ثم تفاقمت, يقول تعالى في سورة الزمر الآية 22 “أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين” ويقول في سورة الأنعام الآية 122 “أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون”.
الاستقامة والثبات على الحق وعلى دين الله من الرجولة, يقول تعالى في سورة النور”رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)”. حقيقة إن الاستقامة حرب ضروس على النفس والشهوات, فمن شكر وحمد وآمن وأيقن أنها من رحمة الله مدت له وتنزلت عليه الملائكة تؤازره, ومن اغتر وانخدع تاه وسط المتناقضات وجرفته تيارات المادية والفلسفات المتصدعة والنظريات المهزوزة, وبالتالي لن يجد استقراره في عالم المتزاحمات والجدليات والمتغيرات التي طالت الجغرافيا والمناخ والزمان.