لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط في بؤرة التوتر العالمي المزمن، الذي ما فتئ يتجدد بجوهره الثابت، حتى وإن اختلفت المسميات والمعطيات وتبدّل اللاعبون. هذا المشهد المتكرر ما زالت تدفع ثمنه شعوب المنطقة من رصيد أمنها واستقرارها، ومن طموحاتها التي لا تجد طريقاً إلى الازدهار. وهو ما يستدعي بالضرورة استشراف موقع الإقليم على خريطة النظام العالمي، لا سيما ونحن نشهد ملامح تشكّل صراع عالمي جديد، بدأت تتضح فيه طموحات بعض القوى الدولية الصاعدة الساعية إلى إعادة رسم خارطة القوى العظمى في العالم.
تشير الدراسات الأكاديمية الحديثة (1) إلى أن النفط، بصفته السلعة الاستراتيجية الأهم في القرن العشرين، يوشك أن يخسر مكانته لصالح المعادن الحرجة مثل الليثيوم والكوبالت والزنك، التي بدأت تشق طريقها بثبات نحو الصدارة، بالنظر إلى دورها الحيوي في سلاسل التحول إلى الطاقة النظيفة. فهذه المعادن تشكّل عنصراً أساسياً في صناعات حيوية، من البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية، إلى مكونات البنى التحتية للطاقة الشمسية وتوربينات الرياح..
واللافت أن هذه الأهمية المتزايدة للمعادن الحرجة قد استرعت انتباه الباحثين لدراسة مدى حساسيتها تجاه التوترات السياسية (2)، وهو ما قد يُلقي الضوء على الأسباب الكامنة وراء السياسات الحثيثة التي تتبعها الدول الكبرى في ظل سعيها المحموم إلى السيطرة على سلاسل التوريد، وضمان الوصول المباشر إلى الموارد الاستراتيجية في مناطق النفوذ حول العالم. ففي إطار هذا التنافس الجيو-اقتصادي، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز حضورها في مناطق غنية بالمعادن عبر أدوات اقتصادية واتفاقيات ثنائية تمنحها امتيازات تفضيلية في الاستكشاف والتوريد، كما يظهر في محاولاتها دفع أوكرانيا إلى توقيع اتفاقية تتيح لواشنطن وصولاً تفضيلياً إلى مواردها الطبيعية.
هذه المساعي الحثيثة للسيطرة على الموارد والمعادن الحرجة يمكن قراءتها في سياق أوسع من مجرد اتفاقيات ثنائية أو ترتيبات اقتصادية؛ فهي تعكس جوهر التنافس المحموم بين الولايات المتحدة والصين على قيادة المرحلة الصناعية المقبلة. فبحسب الإحصاءات المعتمدة (3)، تسيطر الصين على ما نسبته 60 إلى 70% من سلاسل الإمداد والاحتياطي العالمي، بينما تتفوّق الولايات المتحدة في المجال التكنولوجي، ولا سيما في الذكاء الاصطناعي ورقائق التقنيات الصناعية. هذا التموضع داخل الخريطة الصناعية العالمية، بما يمثله من ثقل اقتصادي واستراتيجي، يشكّل الترس المحرّك للصراع الدولي الراهن، ويمهّد لمرحلة جديدة من إعادة توزيع النفوذ على أساس السيطرة على سلاسل القيمة لا على مصادر الطاقة التقليدية.
وبينما تُظهر الولايات المتحدة قوتها العسكرية بوضوح، من خلال انتشار قواعدها في أوروبا والشرق الأوسط وسط مظاهر معلنة لتفوّقها المدعوم تكنولوجياً، تحيط الصين قدراتها العسكرية بقدر كبير من الغموض. فلا تتوافر معلومات مؤكدة تكشف عن حجم هذه القوة، ناهيك عن ابتعاد بكين تقليدياً عن مظاهر الاستعراض العسكري. غير أن مؤشرات محدودة بدأت تلوح في الأفق تُظهر ميلاً تدريجياً نحو تعديل هذا النهج، حيث يمكن رصد بعض مظاهر الانفتاح على الكشف عن التطور في ترسانتها التكنولوجية والعسكرية. ومع ذلك، تبقى كفة المشهد مائلة لصالح الولايات المتحدة، على الأقل في العلن، وهو تفوّق عسكري تحرص واشنطن على توظيفه كأداة رئيسية لترسيخ نفوذها السياسي وتعزيز حضورها في موازين القوة الدولية.
هذا التفوق العسكري المعلن يمثّل نقطة الارتكاز الأساسية التي تعتمد عليها واشنطن لتأكيد نفوذها السياسي وممارسته بسطوة على المشهد الدولي، بما يخدم مصالحها الاقتصادية ويعزّز موقعها التنافسي في مواجهة الصين. وفي ظل العلاقة الطردية بين القوة العسكرية والنفوذ السياسي، يصبح من الواضح أن أي محاولة لتقويض النفوذ الأمريكي لا يمكن أن تتحقق عبر الاقتصاد وحده، بل تمرّ أولاً عبر إضعاف تفوقه العسكري الذي يشكّل عماد الهيمنة الأمريكية في النظام العالمي الراهن..
وحيث إن القوة الاقتصادية وحدها لا تكفي لإحداث تغيير ملموس في خريطة القوى العظمى في العالم، فإن من مصلحة القوى الصاعدة أو الطامحة أن تعمل على ترسيخ نفوذها العسكري والسياسي من خلال تقويض هيمنة المنافس الأكبر، الولايات المتحدة. ويتم ذلك عبر الرهان على انخراطها في صراعات طويلة الأمد تستنزفها عسكرياً وتضعف نفوذها السياسي، الأمر الذي يفتح المجال أمام فراغ استراتيجي تسعى تلك القوى إلى استثماره لإعادة تشكيل النظام العالمي، وهو ما يجعل مناطق التوتر المزمن – وفي مقدمتها الشرق الأوسط – ميادين مثالية لهذا النوع من الاستنزاف غير المباشر.
ومع هذه المعادلة، يبدو الشرق الأوسط اليوم النموذج الأوضح لهذا النمط من الاستنزاف غير المباشر. فالإقليم يجمع بين هشاشة داخلية عميقة وتنافس إقليمي متشابك، ما يجعله أرضاً خصبة لتطبيق سياسات القوى الكبرى وتجريب أدواتها في إدارة الصراع. فالتباينات المذهبية، والتفاوتات الاقتصادية، ووجود كيانات متنازعة الهوية، كلها عوامل تخلق بيئة دائمة القابلية للاشتعال، تُغري القوى المتنافسة بتحويل المنطقة إلى ميدان لتصفية الحسابات واختبار موازين النفوذ في مرحلة ما بعد الطاقة الكربونية.
وفي ظل تراجع مكانة المنطقة كمصدر رئيسي للطاقة التقليدية، تتقلص قدرتها على فرض موقع متقدّم في النظام العالمي الجديد. غير أنها تبقى ذات أهمية استراتيجية بوصفها عقدة جغرافية تربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وبوصفها أيضاً مختبراً لسياسات الأمن والطاقة وإعادة توازن النفوذ. فبينما تخسر تدريجياً وزنها في معادلة الإنتاج، تظلّ ساحة ضرورية في معادلات النفوذ، إذ لا يمكن لأي نظام عالمي ناشئ أن يتجاهل موقعها أو رمزية الصراع على أرضها
مع انتقال العالم إلى مرحلة ما بعد الطاقة الكربونية، ستبقى المعادن الحرجة أحد المحددات الرئيسة لموازين القوى في القرن الحادي والعشرين. ورغم أن الشرق الأوسط لن يكون مركز هذا التحول، فإنه لن يغيب عن المعادلة، إذ سيظل ميداناً لإعادة توزيع النفوذ بين القوى الكبرى، في صراع يتداخل فيه الاقتصادي بالاستراتيجي، وتتحوّل فيه السيطرة على الموارد إلى أداة لإعادة تشكيل موازين القوة العالمية.
هذه المنطقة، بما تحمله من تشابك تاريخي واستراتيجي، قد لا تكون بالضرورة مركزاً لهذا التحول في الصراع العالمي، لكنها في الوقت نفسه ليست بعيدة عن كونها الساحة المفضلة للاختبار وتصفية الحسابات، وإعادة تشكيل ميزان القوى الدولي، دون أن يكون لأهلها الكلمة الفصل في تحديد مصالحهم أو اختياراتهم.
***********************************************************************************
- Hund, K. L. (2023). Minerals for climate action: The mineral intensity of the clean energy transition. World Bank.
https://doi.org/10.1596/40002 - Saadaoui, J., Smyth, R., & Vespignani, J. (2025). Ensuring the security of the clean energy transition: Examining the impact of geopolitical risk on the price of critical minerals. Energy Economics, 142, 108195.
https://doi.org/10.1016/j.eneco.2025.108195 - Hund, K. L. (2023). Minerals for climate action: The mineral intensity of the clean energy transition. World Bank


