03 October, 2024
Search
Close this search box.
الليرة وسـعر صرف الدولار، الى أين؟
Spread the love

في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة، لا بد من الإشارة بدايةً الى أنّ الدرك الذي وصل اليه الوضع المالي والنقدي خلال السنوات التي سبقت انفجار الازمة، هو السبب في انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع سعر الصرف في المقابل. وقد كشف انفجار الازمة غداة الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول 2019، حجم المشكلة التي يُعاني منها الاقتصاد الوطني والتي تتداخل فيها المديونية المرتفعة مع الشح في السيولة عامةً وشح العملات الأجنبية خاصةً. ما أدى الى ضرب الثقة بالوضعين المالي والنقدي، وتسبب بتراجع الثقة بالليرة اللبنانية ودفع الى استبدالها بالعملات الأجنبية وخاصةً الدولار الأميركي.
وتعود أسباب الانهيار الاقتصادي والمالي الذي عصف بلبنان وانعكس على الليرة التي خسرت قُرابة الــ 98% من قيمتها خلال السنوات الأخيرة، الى الإهمال المزمن للقطاعات الإنتاجية ما حرم الاقتصاد الوطني من فرص النمو المناسبة لاستقطاب الاستثمارات المحلية والاجنبية وخلق فرص العمل. الامر الذي أدى الى اقتصاد يعتمد على الخدمات المالية والمصرفية والخدمات السياحية وجميعها شديدة الحساسية تجاه التطورات السياسية والأمنية، والتي قلما كانت تغيب عن الساحة المحلية.
وكان لاعتماد سياسات إنفاق غير متناسبة مع حجم الاقتصاد الوطني من جهة وإيرادات الدولة من الرسوم والضرائب من جهة ثانية وعدم قدرتهما على مجاراة التوسع بالإنفاق دورهما في انهيار الليرة. خاصةً وأن تمويل هذا الانفاق تسبب بارتفاع الدين العام الذي استخدمت أمواله أيضاَ في تثبيت سعر الصرف منذ مطلع التسعينيات، فيما تمحورت السياسات المالية والنقدية حول خدمة السلطة السياسية وتمويل أطرافها بغض النظر عن آثارها السلبية على الاقتصاد الوطني.
وقد استقطبت المعدلات المرتفعة للفوائد على سندات الخزينة رؤوس الأموال بدل التوظيف في الاستثمارات الإنتاجية، ما عرقل النمو الاقتصادي بقطاعاته الإنتاجية المختلفة وزاد من الأعباء المالية على الخزينة العامة. كما تسببت هذه المعدلات بتضخم الدين العام خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً الامر الذي جعل من ايفاء أصل الدين العام مهمة مستحيلة، حيث أصبحت إيرادات الدولة بالكاد تكفي خدمة الدين في الوقت الذي كان يكبر فيه مثل كرة الثلج.
وما فاقم من هشاشة الوضع المالي ومهد لانهيار العملة الوطنية افتقار القيمين على الشأن العام للرؤية الاقتصادية الشاملة القادرة على استنباط الحلول التكاملية وغياب الحوكمة الرشيدة في إدارة مرافق الدولة، ما أدى الى حرمان الخزينة العامة من إيرادات طائلة هُدرت في متاهات الفساد والمحسوبيات. ويشكل قطاع الطاقة الذي ساهم في ارتفاع الدين العام أحد أبرز الأمثلة عن الحاجة للحوكمة الرشيدة في الوقت الذي عجزت فيه ادارته عن تزويد اللبنانيين ولو بجزء من حاجتهم للكهرباء بصورة مستدامة، وكذلك هو حال الكثير من التلزيمات والمشاريع الانشائية التي كبدت الخزينة مبالغ تفوق العائد منها.
بدوره عدم الاستقرار السياسي الداخلي والتباين بين الاطراف السياسية ساهم في تدهور الاوضاع الاقتصادية والمالية، حيث كانت الصراعات والانقسامات الداخلية تحول دون الإجماع الوطني على المصلحة العليا للبلاد بما في ذلك مصالحه الاقتصادية. وبينما كانت المناكفات السياسية والعلاقات المأزومة بين الأطراف تحول دون الاتفاق على الحلول المناسبة، كان التحاصص يجمع المتخاصمين على حساب المال العام. الامر الذي جعل من ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية نتيجة طبيعية للوضع الاقتصادي والمالي المتردي.
وما عجزت عن تدميره السياسات القاصرة وغياب الإدارة الكفؤة والحوكمة الرشيدة اجهزت عليه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي تسببت بزيادة الدين العام نتيجة الخسائر التي لحقت بالبنى التحتية حتى الامس القريب. الامر الذي ابعد الاستثمارات الخارجية وحد من حماسة المستثمرين الجدد، كما تسببت هذه الاعتداءات في تأخير النمو الاقتصادي وضاعفت من تكلفته. ولا يزال لبنان واقتصاده الهش عرضة لخطر الاعتداء الاسرائيلي على ارضه ومرافقه الحيوية على الرغم من اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي أُقر نهاية تشرين الثاني من العام 2022.
في المقابل، يحلو لبعض “الخبراء” تبشير اللبنانيين بحتمية ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية بمجرد انتهاء الأعياد، متوقعين بلوغ السعر سقوفاً عالية غير مسبوقة خلال الأشهر القليلة القادمة. ويستند هؤلاء “الخبراء” في توقعاتهم هذه على معدل ارتفاع سعر الصرف في الفترة السابقة، ويحتسبون بناءً عليه المعدل الذي سيبلغه هذا السعر في المستقبل. وما يؤخذ على هذه التوقعات والاستنتاجات هو اعتمادهما على معادلات حسابية أقرب الى متواليات هندسية تتجاهل المؤشرات الاقتصادية التي تُحرك الاسواق والأسعار.
ولا تقع المسؤولية عن ارتفاع سعر الصرف بطبيعة الحال على عاتق هؤلاء “الخبراء” الذين يُحاولون تفسير أسبابه وتوقع ما سيكون عليه في المستقبل، غير أنّ هذا التفسير وتلك التوقعات تُقارب احياناً الترويج لارتفاع سعر الصرف وتبرر عمل المضاربين اللاهثين وراء الربح على حساب العملة الوطنية. سيما وأنّ تناول الوضع النقدي والاقتصادي بصورة سلبية لا بد من أنّ ينعكس سلباً على سعر الصرف خاصةً والاقتصاد عامةً بفعل تأثيره النفسي على المستهلكين، كما أنّ التصويب المتكرر على مستقبل سعر الصرف يُضاعف من تأثير الأسباب التي أدت وتؤدي الى ارتفاعه مقابل الليرة.
وأياً تكن الاسباب التي أدت الى استقرار سعر صرف الدولار الأميركي خلال شهر نيسان المنصرم، وهي واقعية في معظمها إن لجهة رغبة السلطتين السياسية والنقدية في الحفاظ على هذا الاستقرار خلال شهر رمضان المبارك وتمرير عيدي الفصح المجيد والفطر السعيد، او لجهة حجم تدخل مصرف لبنان في سوق القطع حفاظاً على استقرار سعر الصرف.
الا أنّ ذلك لا ينفي دور المضاربين على العملة الوطنية في تأمين استقرار هذا السعر، لا بل ما كان هذا الاستقرار ليتحقق من دون حال المهادنة التي التزم بها كبار صرافي السوق الموازية. وقد يكون من المبالغة السؤال في ظل عجز الدولة ومعها مصرف لبنان عن كبح جماح المضاربات على العملة الوطنية، إذا ما كان من حس وطني لدى هؤلاء المضاربين يردعهم عن الاستمرار في المشاركة بالجريمة المتمادية بحق اللبنانيين وعملتهم الوطنية.

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات