عندما يدقق المواطن العربي العادي ويتعمّق في التسريبات التي مصدرها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، يصاب هذا المواطن بالذهول. لا لشيء سوى لأن تلك التسريبات الصادرة عن شخص كان المسؤول الأوّل في العراق، طوال سنوات عدّة، تعطي فكرة عن مدى التدهور الذي أصاب بلدا عربيّا محوريا لم يعد معروفا هل يمكن إعادة تركيبه ووضعه على خريطة الشرق الأوسط كما كانت عليه الحال حتّى العام 2003.
لم يكن المالكي، من خلال التسريبات، اكثر من سياسي حاقد يعتقد انّ العراق يجب ان يكون في خدمة ايران بدل ان يكون بلدا عربيّا حرّا سيّدا متنوعا ينتمي إلى كلّ ما هو حضاري في العالم كما كان عليه في الماضي البعيد. الماضي البعيد هو ما قبل العام 1958 عندما كان النظام الملكي الذي اطاحته مجموعة من العسكر تأثّرت بالمدّ الناصري (نسبة إلى الضابط الريفي الذي اسمه جمال عبد الناصر).
اللافت ، أنّ صدور تسريبات المالكي وتوزيعها، جاءت في الذكرى السنوية الـ64 لذلك اليوم المشؤوم الذي نفّذ فيه الإنقلاب الدموي على اسرة هاشميّة كانت بعيدة كلّ البعد عن كلّ ما له علاقة بالعنف والقتل.
يدلّ كلام المالكي الذي يحرّض فيه على مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الذي حقق حزبه انتصارا في الإنتخابات الأخيرة، دليلا على انّ الرجل لا يؤمن سوى بإلغاء الآخر. هذه ثقافة النظام الإيراني القائم كما كانت ثقافة حزب البعث في سوريا والعراق. إذا كان التحريض على مقتدى الصدر مفهوما في ضوء منافسته له شيعيا، ما لا يمكن فهمه لماذا هذا التحريض على السنّة والأكراد، الأكراد ممثلون بمسعود بارزاني الذي اتبع في كلّ وقت سياسة تصبّ في مصلحة العراق والوحدة بين القوميات التي يتألّف منها من منطلق فيديرالي.
بعيدا عن تقييم السياسات التي اتبعها مسعود بارزاني الذي اخطأ في مرحلة معيّنة عندما سار في استفتاء من اجل الإنفصال الكردي، لا يمكن تجاهل انّ المكوّن الكردي لا يستطيع اعتماد أي خيار آخر، أي خيار إيجاد موقع مميّز في العراق.
أخطأ مسعود بارزاني، وقتذاك، في توقيت موعد الإستفتاء، لكن ما صدر عن المالكي يعطيه الحقّ في خياره ويؤكّد في الوقت ذاته انّه يستحيل التعايش مع فريق سياسي لا يؤمن سوى بأن يكون العراق تابعا لـ»الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران وفي خدمتها.
يختزل نوري المالكي، بما صدر عنه من تسريبات، التاريخ الحديث للعراق بين 1958 و 2022. لم يعش العراقيون يوما ابيض منذ الإنقلاب العسكري الدموي الذي وقع في 14 تموز – يوليو 1958.
ترمز تسريبات نوري المالكي إلى سقوط العراق من عهد ملكي بحسناته وسيئاته، عهد كان فيه كلّ الخير، إلى عهد العسكر والبعث، ثمّ العسكر مجدّدا، ثمّ البعث وصدّام حسين، الريفي الذي اجتاح المدينة والذي يبدو ملاكا اذا ما قارنّا تصرّفاته بما صدر عن نوري المالكي.
تكفلّ العسكريون، بكلّ جهلهم ودمويتهم، ثم حزب البعث بكلّ تخلفه، بسقوط العراق. لم يكن النظام الملكي نظاما مثاليا، لكنّه كان ضمانة للعراقيين من كلّ القوميات والمذاهب والطوائف. من بلد كان مهيئا، بفضل ما يمتلكه من ثروات، بما في ذلك الثروة الإنسانيّة، إلى ان يكون بلدا مزدهرا يعيش فيه مواطنوه في ظلّ دولة القانون، تحوّل العراق إلى بلد لا مستقبل له.
لا شكّ ان الجهود التي يبذلها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، من النوع الإستثنائي، خصوصا انّه يمتلك وطنيّة عراقيّة حقيقيّة وشجاعة كبيرة. تمثلت هذه الشجاعة في دعوته إلى إبقاء العراق خارج كلّ المحاور الإقليمية واصراره على ذلك في قمة جدّة التي كان العراق ممثلا فيها. لكنّ التمنيات شيء والواقع شيء آخر. يمثّل نوري المالكي الواقع العراقي بكلّ تخلّفه. يقول الواقع أنّ ايران ما زالت اللاعب الأساسي في العراق وأنّها لا يمكن ان تقبل بعودة البلد إلى مرحلة ما قبل العام 2003 عندما سلمت إدارة جورج بوش الإبن العراق إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران. تبدو تسريبات نوري المالكي تعبيرا عن تلك اللحظة. إنّها لحظة تحقيق ايران ما لم تستطع تحقيقه من خلال حربها مع العراق بين العامين 1980 و 1988.
سقط العراق سقوطا مريعا أوصله إلى الحضيض، بل حضيض الحضيض، الذي يعكسه الإنسداد السياسي الكامل منذ انتخاب مجلس للنواب لا تتحكّم به ايران. كان ذلك في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي. ما يشير إلى مدى عمق الأزمة العراقيّة أنّ نوري المالكي بات يقول ما هو مطلوب منه قوله من ايران. خلاصة ما يقوله أن العراق ليس سوى ورقة ايرانيّة. اكثر من ذلك، أراد القول انّ لا عودة إلى ما قبل العام 2003 تاريخ تسليم اميركا العراق إلى «الجمهورية الإسلاميّة» على صحن من فضّة.
اخطر ما في الإمر أنّ الشعب العراقي يرفض ان يكون العراق مستعمرة ايرانيّة. يرفض ما يدعو إليه نوري المالكي وامثاله. معنى ذلك أنّ العراق عند مفترق طرق. الأكيد انّ مستقبل العراق سيتقرّر على ارض العراق وليس في أي مكان آخر على الرغم من وجود إدارة اميركيّة لا تعرف ما معنى منع ايران من السيطرة على العراق…
The post بقلم خيرالله خيرالله – المالكي يختزل 64 عاماً من السقوط العراقي appeared first on جريدة الشرق اللبنانية الإلكترونيّة – El-Shark Lebanese Newspaper.