في نهاية نيسان/ابريل الماضي وجه وزير المال اللبناني تعميماً الى الإدارات العامة لإعداد مشروع موازنة الـ 2025، على أن تبقى نفقاتها في حدود موازنة الـ 2024. في المقابل، كان حاكم مصرف لبنان بالإنابة يُعلن تحقيق المصرف زيادة في الاحتياطات بالعملات الاجنبية بينما يستمر بتأمين رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي والمحافظة على استقرار سعر الصرف. الامر الذي يُبين مراوحة السياسات المالية في مربع الازمة، فيما تحقق السياسات النقدية إنجازات ملموسة.
يُحدد تعميم وزير المالية الاعتبارات الواجب مراعاتها عند إعداد مشروع الموازنة الجديدة. وهو يتضمن دعوة جميع المؤسسات والإدارات التي تستفيد من مساهمات مالية تُدرج في الموازنة العامة، إيداع وزارة المالية مشاريع موازناتها قبل نهاية شهر أيار الحالي. مشدداً على دور هذه الإدارات في إعداد مشروع موازنة واقعي من ضمن خطة مستقبلية تُلبي الحاجات وتأخذ بالاعتبار إمكانات الدولة المالية، ومتعهداً بتقديم موازنة العام الجديد في موعدها الدستوري.
وفي التعميم دعوة الى اعتماد سياسة الانضباط المالي وعدم تخطّي سقف الموازنة أياً كانت الأسباب، الأمر الذي لا بد منه لوضع حد لتجاوزات عاقدي النفقات لا سيما الوزراء منهم. ويندرج في السياق عينه دعوة التعميم الى الامتناع عن أي إنفاق إضافي ما لم يكن مقروناً بتمويل معروف المصدر. فيما تتناقض دعوة التعميم الى التركيز على الإنفاق الاستثماري المجدي مع ما جاء في التعميم عينه لجهة استحواذ النفقات التشغيلية على 90% من نفقات الموازنة.
أما خلاصة تعميم الوزير فيُمكن اختصارها بعدم تحميل مشروع الموازنة الجديدة أيّة أعباء إضافية عن موازنة الـ 2024 وتفوق قدرة الخزينة على تحملّها. ذلك أن الهدف من مشروع موازنة الـ 2025، الالتزام بإمكانات الدولة المالية وعدم إحداث أي عجز لضمان الاستقرار المالي والنقدي. إلا أن المفارقة في التعميم المشار اليه أعلاه، حثه الإدارات المعنية على البحث عند اعدادها لموازناتها عن مصادر تمويل من خارج الموازنة، لا بل عن هبات لتمويل نفقاتها، ما يُشكل دعوة صريحة الى التسول.
وتجدر الإشارة الى أن النفقات التي تضمنتها موازنة العام 2024 تم ضبطها بحدود الإيرادات المتوقعة من الضرائب والرسوم التي رُفعت بين الـ 10 أضعاف والـ 60 ضعفاً. وبالتالي فإن استنساخ اعتمادات موازنة الـ 2024 في مشروع موازنة الـ 2025، يدل على افتقار وزارة المال ومن ورائها حكومة تصريف الاعمال لرؤية مالية واقتصادية تُبلورها من خلال موازنة تُساهم في نهوض البلد.
في المقابل من غير المنطقي الاستمرار في تخفيض النفقات بحجة عدم توفر الإيرادات، في الوقت الذي تستمر فيه العديد من المرافق العامة التي تؤمن الإيرادات معطلة بشكل شبه كامل. إن إعادة هذه المرافق لمزاولة عملها وفقاً للأصول يحقق إيرادات مضاعفة للخزينة، سيما وأن التعطيل بدأ منذ جائحة كورونا واستمر مع الازمة المالية والاقتصادية. حتى أن الطوابع المالية أضحت غير متوفرة إلا للمحتكرين، ما زاد من العقبات في وجه المواطنين وضاعف تكلفة انجاز معاملاتهم.
والمطلوب اليوم أن يُشكل مشروع الموازنة العتيد مقاربة تأخذ في الاعتبار دور الموازنة العامة المحوري في النهوض الاقتصادي للبلد. ذلك أن الأزمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان منذ مطلع العام 2020 تتطلب ترشيد الانفاق وحسن توظيف الإيرادات لتكوين احتياطات مالية تسمح بتسديد الدولة لالتزاماتها، ذلك أن عدم إدراج التزامات الدولة المالية في موازنة الـ 2024 لا يعفيها منها.
وبالقدر الذي يجب على الإدارات والمؤسسات العامة الاكتفاء بالنفقات الضرورية، يجب بالقدر عينه وربما اكثر العمل على تفعيل عملها الذي يزيد من إيرادات الدولة ويُساهم في انجاز معاملات المواطنين العالقة. فمعالجة الازمة المالية والاقتصادية لا يكون بخنق الانفاق، لا بل يكون بالتوقف عن الانفاق غير المجدي وتوجيهه الى المجالات التي تشجع الاستثمارات الجديدة وتحفز الاقتصاد الوطني.
وعلى الرغم من أن الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان تتسبب بتراجع الحركة الاقتصادية وتراجع إيرادات الدولة من الرسوم والضرائب، تستمر حاجة المواطنين الى انجاز معاملاتهم العالقة سواءً في الدوائر العقارية أو في مصلحة تسجيل السيارات او في غيرها من الإدارات العامة لا سيما دوائر النفوس. وعوض أن يحث وزير المالية في تعميمه المعنيين على البحث عن هبات خارجية، كان الأولى به العمل على فتح ابواب الإدارات والمؤسسات العامة لإنجاز معاملات المواطنين وتحصيل حقوق الدولة من الرسوم والضرائب.
والإصرار على خفض النفقات وعدم تخطيها مجموع الايرادات للمحافظة على التوازن المالي، هو الوجه الآخر للإنفاق من خلال الاستدانة ومراكمة القروض وفوائدها دون القدرة على إيفائها. وكلاهما يؤدي الى تحميل الاقتصاد الوطني أعباء تعرقل نموه وتشوه تطوره. ويأتي خفض الانفاق على حساب موظفي القطاع العام عسكريين ومدنيين الذين تدنت مداخيلهم الى اقل من 10% مما كانوا يتقاضونه قبل الازمة، فيما يُشدد التعميم على الا تزيد الرواتب المدرجة في بند الرواتب عن 7 اضعاف الراتب الاساسي.
في المقابل، تمكن مصرف لبنان من المحافظة على استقرار سعر الصرف وتحقيق 1.7 مليار دولار زيادة على احتياطاته لتبلغ 9.6 مليار دولار، وخفض حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الى أدنى مستوى لها منذ آب/أغسطس الماضي لتُقارب الـ 53.4 تريليون أي دون الـ 600 مليون. وتأتي هذه الانجازات على الرغم من استمرار الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية والاعتداءات الإسرائيلية وتقاعس حكومة تصريف الاعمال عن وضع خطة لمعالجة الازمة الاقتصادية وتداعياتها.
صحيح ان ما حققه مصرف لبنان من زيادة في احتياطاته بالدولار الاميركي يظل متواضعاً في مقابل الفجوة المالية التي تناهز الـ 73 مليار دولار أميركي بحسب تقرير Alvarez & Marcell في حزيران/يونيو 2023. إلا أن المهم في الامر أن مصرف لبنان اعتمد مقاربات واقعية مكنته من المحافظة على استقرار سعر الصرف وزيادة احتياطاته في نفس الوقت، وهي مقاربة مطلوبة من وزارة المالية تُفعل من خلالها تحصيل الإيرادات وترشيد الانفاق، لا الاكتفاء بموازنات متقشفة تعمق الازمة ولا تحلها.