“مصر” حين ينهض الحجر من صمته – افتتاح المتحف المصري الكبير: ذاكرة الإنسان على مرمى الهرم
Spread the love

في قلب الجيزة، حيث تتقاطع الرمال مع الأبد، يقف المتحف المصري الكبير كأنه تجسيد حي لفكرة مستحيلة: أن يُحفظ الزمن في قاعة، وأن ينهض الماضي من رماده ليحادث الحاضر بعيون من ذهب وحجر.

ليس هذا الافتتاح حدثًا معماريًا فحسب، بل واقعة إنسانية تعيد للذاكرة معناها، وتربط أول الحكاية بآخرها.

هنا، عند سفح الهرم الأكبر، تفتح مصر بوابة جديدة على التاريخ، وتقدّم نفسها للعالم لا كأثر منقوش، بل كوعي متجدد لم ينطفئ منذ فجر الإنسان.

 المتحف المصري الكبير… معبد الذاكرة الحديثة

على مقربة من أهرامات الجيزة، يقف المتحف المصري الكبير في مشهد يخطف الأنفاس، كأنه جسر يربط بين مصر القديمة ومصر المستقبل.

يضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة لكنوز الملك توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة بهذا الشكل، لتعيد للزائر تجربة اكتشاف التاريخ كما حدث في 1922 على يد هاورد كارتر والصبي حسين عبد الرسول.

تتيح تقنيات العرض التفاعلي والإضاءة الذكية تجربة فريدة: لا يكتفي الزائر بمشاهدة التاريخ، بل يعيش تفاصيله، من أصغر النقوش إلى أكبر القطع الذهبية.

غير أن المتحف، في جوهره، ليس مجرد مبنى يضم آثارًا، بل فكرة حضارية كبرى: أن تقدم مصر نفسها للعالم مجددًا، ليس فقط كرمز لماضٍ مجيد، بل كقوة ثقافية معاصرة تصنع المستقبل بروح من يعرف أصله.

 عبقرية المكان والزمان

منذ آلاف السنين، كانت مصر واديًا للحياة وسط الصحراء، حيث صنع النيل معجزته الكبرى.

تعلم المصري القديم الزراعة، وأبدع في الهندسة والكتابة والطب والفلك، فكان من أوائل من وضعوا أسس الدولة، العدالة، العمارة، والفن.

لم تكن الأهرامات مجرد قبور، بل رموز فلسفية عميقة تعكس إيمان الإنسان بالخلود ورؤيته الكونية للحياة والموت.

والفن عند المصري القديم لم يكن زينة، بل لغة روحانية تجسد النظام الكوني في الخطوط والألوان والنسب، بينما كان العلم وسيلته لفهم الوجود وتنظيمه.

 الأهرامات: عبقرية العقل والإيمان

الأهرامات لا تزال أعظم لغز هندسي على وجه الأرض.

كيف رفع المصريون أحجارًا تزن عشرات الأطنان؟ وكيف وضعوها بدقة فلكية متناهية؟

التفسيرات العلمية تشير إلى منحدرات رملية، حبال، مراكب نيلية، ونظام هندسي محكم، لكنها لا تفسر شعور الدهشة أمام ضخامة البناء.

الهرم لم يُبنَ لمجرد الدفن، بل رمزًا للخلود، قاعدة تمثل الأرض، وقمة تشير إلى الشمس، وممراته الداخلية موجّهة نحو النجوم، لتصبح رحلة الفرعون من الموت إلى الأبدية.

أما الذهب في المقابر، فهو ليس مجرد زينة دنيوية بل “لحم الآلهة”  مادة أبدية تمثل النور الخالص وترافق الملك في رحلته بعد الموت.

 أسرار التحنيط والطعام الخالد

التقنيات التي استخدمها المصريون في التحنيط مذهلة: نطرون، زيوت عطرية، وأقمشة الكتان تحفظ الجسد لآلاف السنين.

حتى الطعام والفاكهة في المقابر ظل طازجًا لفترة أطول، واللبن يتحول إلى زبادي دون أن يفسد، والنباتات المزروعة بالقرب من المقابر تنبت أسرع من غيرها.

المصري القديم لم يكن مهندسًا وفنانًا فحسب، بل عالمًا يعرف أسرار المادة والطبيعة ويحيلها إلى طقس للخلود.

 الفراعنة: حياة الملك اليومية

كان الفرعون محور عالم كامل، يحكم المملكة ويقود شؤونها.

كان يسكن قصورًا ضخمة تضم غرفًا للمعيشة، قاعات للاجتماعات الإدارية، المخازن التي تحفظ الطعام والمجوهرات والمعدات الملكية، والمعابد الملحقة لإقامة الطقوس الرسمية.

من كان يخدم الفرعون؟

  • الكتبة: لتسجيل الأحداث والنقوش والمراسيم.
  • الجنود والحراس: لضمان أمن القصر والمقابر.
  • الحرفيون والفنانون: لصناعة التماثيل والمجوهرات والتحف.
  • الخدم: لتقديم الطعام والماء والملابس والاعتناء بحياة الملك اليومية.

معظم القصور لم تصمد عبر الزمن لأنها بُنيت من الطوب اللبن والخشب، بينما بقيت الأهرامات والمعابد شاهدة على الفكر المعماري والفلسفي للفراعنة.

 مصر التي لم تمرّ على أحد

تقول الأسطورة إن مصر مرت عليها كل الحضارات، لكنها لم تمر على أحد.

بقيت شاهدة على الممالك والإمبراطوريات وهي تولد وتنهار، بينما ظلّ نيلها يجري كما كان، شاهدًا ومؤرخًا وصوتًا سرمديًا للحياة.

لقد ذكرها القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة، إما صراحة أو إشارة، مما يعكس مكانتها الدينية والإنسانية.

فيها عاش يوسف عليه السلام وأصبح عزيزها، وفيها واجه موسى فرعون، ومنها لجأت مريم العذراء ومعها الطفل عيسى عليه السلام.

ولهذا، قال المفسرون إن مصر كانت دومًا “دار الأمان”، كما في قوله تعالى:

“ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ” [يوسف:99].

هذا البعد الروحي جعل مصر تحتفظ بمكانة فريدة في الوعي العربي والإسلامي

فهي ليست وطنًا فقط، بل رمز للأمان والرحمة والبركة، ومحرابٌ تلتقي عنده الرسالات والقلوب.

 من ماضي الذهب إلى حاضر النور

كل خطوة داخل المتحف تبدو رحلة في لون من ألوان الزمن.

الأقنعة الذهبية، والبرديات المحفوظة كأنها كُتبت أمس، والمومياوات التي تنظر إليك من عمق القرون — كل ذلك يقول شيئًا واحدًا:

الزمن في مصر لا يشيخ، بل يتحوّل إلى ذهب.

في إحدى القاعات الكبرى، يقف تمثال رمسيس الثاني شامخًا، وكأنه لم يُنقل بل عاد إلى مكانه الطبيعي بعد غياب.

الضوء يتسلل على كتفيه، فيبدو أن الهرم يهمس له عبر المسافة: “ما زلنا هنا”.

وفي تلك اللحظة، يدرك الزائر أنه لا يشاهد آثارًا فحسب، بل يرى نفسه في مرآة التاريخ.

 من المتحف إلى المعجزة

حين تخرج من المتحف وتنظر نحو الأهرامات، يتلاشى الخط الفاصل بين العلم والأسطورة.

كيف بُنيت هذه الكتل الهائلة؟ كيف حُنّطت الجثث فبقيت ملامحها كأنها نائمة؟

وكيف يمكن أن تبقى ألوان المقابر زاهية بعد آلاف السنين؟

أسئلة لا إجابة نهائية لها، لأنها ببساطة كتبت لتظل تُسأل.

فالمتحف المصري الكبير ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها الجديدة.

إنه لحظة وعي تقول للعالم إن الحضارة لا تعني الحنين إلى الماضي، بل القدرة على استعادته في شكل من أشكال المستقبل.

 مصر التي تبدأ ولا تنتهي

من هنا، من أرضٍ كلّ ذرة فيها تشهد على الخلود، تعلن مصر أن الزمن ليس خصمًا لها، بل شريكها الأبدي.

فهي التي جعلت من الحجر كتابًا، ومن النهر نغمة، ومن الجمال رسالة إلى الأبد.

وحين يفتح المتحف أبوابه على مداه، لا يكون ذلك احتفاءً بالماضي، بل انتصارًا للحياة نفسها.

مصر، التي كتبت أول فصل في قصة الإنسان، تكتب اليوم فصلها الجديد…

بلغة الضوء، والألوان، والذهب، والمعرفة التي لا تنتهي.

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات