العرب نيوز ( رؤوس – أقلام ) بقلم الكاتب يونس الهديدي – يبدو العالم في راهنيته حافلًا بالمستجدات التي تجعل آليات التحليل التقليدية تتراجع، فالمتأمل في اللحظة الراهنة يجد نفسه ملذوذًا إلى استطلاعها، مراعيًا في ذلك العوامل التي تفرض نفسها على السياق المعاصر. إن مجتمعات اليوم بشكل عام والعربي بشكل خاص تعيش ما بعد الصدمة حالة من التيه الحضاري، نلمس ذلك في مسلك الفرد ومسلك الجماعات على حد سواء، ولا نقصد بالتيه إلا تلك الحالة التي يعيش فيها الفرد نوعًا من الفصام الذي ينشأُ في علاقته بالواقع. ولعلّ الواقع التكنولوجي اليوم وما يطرح من إمكانات تترجم هذه الحالة أوضح مثال على ذلك، فالنظم الكلاسيكية فيه تحاول أن تحافظ على موقعها في الآن ذاته التي يمارس فيها الزمن سحب الأفراد إلى حقوله السائلة.
إن المتأمل في الوجه الذي تطرحه الرأسمالية بنسخها المتجددة، سيفهم حتمًا بواعث هذا التيه، والذي لا يمكن فصله عن نمط الاقتصاد السائد، نمط ينهض على منطق الاستهلاك الذي ارتهن قيمة الإنسان ومن ثمّة هويته للأشياء. فأية هوية تلك التي تحضر في الإنسان بوصفه شيئًا؟ أليست الكرامة – على حد التنظير الكانطي- أساسًا لهذه الهوية؟
غالبًا ما نقصد الفرد رأسًا لكي نفهم العالم في كليته، ويبدو الواقع الرقمي بما يطرحه قمينًا بأن تشمله هذه القصدية. فكيف يمكن فهم التضحية بقيمة الكرامة من أجل بناء هوية زائفة، تجعل الإنسان لا يحيا إلا في مستوى الصورة؟
إن استقراء أعضاء المجتمعات الرقمية إن جاز التعبير وعوالم التفاهة التي تصدر عنها، يحيلنا مباشرة على الاقتصاد بوصفه المحرك الأساس لهذه العوالم وعلى السياسة بوصفها مركزًا للتدبير بالإلهاء، فلا يكاد يستشعر القارئ لهذه العوالم العربية بشكل أخص، ولمنطق أفرادها إلا حضورًا لمستويات محددة:
– كرامة في الواقع مقابل إذلال رقمي: تظهر المجتمعات على هذا المستوى بشكل متفسخ، فلا هي تقليدانية تحافظ على قيم التضامن التي يكرسها العرف والدين، ولا هي فردانية تغلب حرية أفرادها. إنها نسخة جديدة، نسخة سائلة ومتفسخة لا تستطيع أن تقيم علاقة بين الصورة وواقعها، لذلك تتأسس فيها هوية الأفراد على اللاكرامة وعلى نوع من الإذلال سياسيًّا واجتماعيًّا.
– شيوخ بلا زوايا: يضح أن العبور من الشيخ إلى المؤثر، ردمته الاستراتيجيات السياسية، فالرهان على الوحدات الاجتماعية الكبرى ما زال قائمًا على المستوى السياسي، ولكن هذه المرة ليس من داخل الزوايا الصوفية ولا من داخل القبيلة في المجتمعات العربية، بل يصدر الأمر عن صناع الرأي بوصفهم شيوخًا يمارسون الحشد في الآن ذاته الذي يمارسون فيه الإلهاء، دونما ادعاءات فوق طبيعية، وإنما تحت حيوانية إن جاز القول.
– إنسانية تقطن عدسة الكاميرا: تظهر القيم في هذا المستوى باعتبارها مرئية اجتماعية تعمد إلى تعويض الانهيار الأخلاقي الذي تظافرت عوامل شتى في خلقه، فيتبدّى لنا الإنسان من داخل إطار الصورة كائنًا فصاميًّا ومشوّهًا يتوسل من الأداة تعويضًا لذاته المفقودة.
انقلاب الهوية والقيمة يحيلان على حالة التيه التي تعيشها مجتمعات ما بعد الصدمة، صدمة حضارية تعرف تفاوتًا بين الحداثة كنسق فكري وبين التحديث كتنمية على أرض الواقع، لذلك من الصعب وصفها بأنها مجتمعات ما بعد إنسانية، ذلك لأن الأثر الإنساني بات يزاولها إلى الحد الذي يمكن أن تحلل فيه الإنسانية في مستوى الصورة المتبلدة لا غير.