بينما يتصاعد التوتر في فلسطين المحتلة على وقع عملية طوفان الأقصى البطولية التي نفذتها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وتزايد فظاعة المجازر التي يرتكبها العدو الإسرائيلي بحق المدنيين، وفيما تلفح رياح التصعيد الحدود الجنوبية للبنان، يستقر سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي للشهر الثالث على التوالي على الرغم من كل ما تقدم ومتجاوزاً الفراغ الرئاسي وعجز حكومة تصريف الاعمال عن القيام بإجراءات تحول دون استمرار الانهيار المالي والاقتصادي.
ومن نافل القول إن اسباب ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي تقتصر على الازمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان، خاصةً وأنه كان للمضاربة على الليرة دور كبير في تسارع انهيار قيمة العملة الوطنية. أما تحويل المسؤولين والمحظيين لودائعهم بالعملات الأجنبية الى الخارج فكان بمثابة رصاصة الرحمة على العملة الوطنية، بينما كان يتم هدر جزء كبير من احتياطي مصرف لبنان في دعمٍ عشوائي لاستيراد السلع الاستهلاكية، بدلاً من استخدامها في المحافظة على استقرار سعر الصرف ولجم المضاربات.
وكان سعر صرف الليرة بدأ بالتراجع التدريجي منذ نهاية شهر آذار/مارس الماضي بعد أن بلغ اعلى مستوى له متجاوزاً عتبة الـ ١٤٠ ألف ليرة لبنانية في الثلث الثاني منه، ليستقر على ما يُقارب الـ ٩٠ ألف ليرة منذ نهاية شهر تموز/يوليو الماضي. في حين كان العديد من “الخبراء” يرجح ارتفاع سعر الصرف الى مستويات دراماتيكية، بمجرد انتهاء موسم الصيف وعودة السياح الى بلدانهم والمغتربين الى أعمالهم في بلاد الاغتراب، مع العلم أن التطورات العسكرية كانت مستبعدة.
وقد استمر استقرار سعر الصرف مخالفاً التوقعات المشار اليها اعلاه، حتى خلال الفترة التي سبقت عدم تعيين حاكمٍ جديد لمصرف لبنان لخلافة الحاكم السابق رياض سلامة وما شهدته من سجالات ومناكفات، وعلى الرغم من تلويح نواب الحاكم بالاستقالة في حال لم تُعين الحكومة حاكماً بالأصالة للمصرف. ذلك أن الضبابية التي ميزت الفترة التي سبقت تكليف الدكتور وسيم منصوري حاكماً لمصرف لبنان بالإنابة، كانت كافية لزعزعة الاستقرار الهش لسعر الصرف.
وبينما كان يُخشى أن يتسبب دفع رواتب موظفي القطاع العام وعناصر الاجهزة العسكرية والامنية والمتقاعدين بالدولار الأميركي تراجعاً في سعر الصرف، تمكن مصرف لبنان من تخطي هذا التهديد والاستمرار في دفع الرواتب بالدولار نهاية شهر آب/اغسطس ونهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضيين. محافظاً في الوقت عينه على استقرار سعر الصرف وعلى الاحتياطات، بحسب ما جاء في حديث صحافي لحاكم مصرف لبنان بالإنابة على هامش اجتماعات صندوق النقد المنعقدة في مدينة مراكش المغربية (من ٩ الى ١٥ تشرين الأول/أكتوبر)، بل على العكس، فلقد ساهمت إيرادات الدولة بالعملات الأجنبية في زيادتها.
ولعل في الاستقرار الذي يشهده سعر صرف العملة الوطنية في ظل الظروف السياسية والاقتصادية، بل والأمنية خير دليل على استنفاد لعبة المضاربة على العملة الوطنية ادواتها ومبرراتها، وخاصة بعدما خفض مصرف لبنان الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. علماً أن خفض حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بدأه حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، إلا أنه بدد فعالية هذا الخفض من خلال إعادة ضخ جزء من هذه الكتلة لجمع الدولارات من السوق الموازية لتلبية الطلب على منصة صيرفة.
وبينما كان يُعول على منصة صيرفة في أن تلجم المضاربات على العملة الوطنية وتحقيق استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية، تحولت الى منصة تُتيح المضاربة على الليرة وتحقيق الأرباح من خلال هامش الاسعار بين صيرفة والسوق الموازية. هذا الهامش الذي كانت تتم تغطيته من قبل مصرف لبنان ويسبب استنزافاً لاحتياطاته من العملات الأجنبية، والذي ما كان ليتوقف من دون وقف العمل بمنصة صيرفة. وهنا أيضاً، لم يحل توقيف عمل صيرفة دون استمرار استقرار سعر الصرف ضمن الهوامش نفسها، وذلك نتيجةً للتوازن الذي تحقق بين العرض والطلب على الدولار في السوق النقدية.
في المقابل، إن الزيادة التي طرأت على الرسوم والضرائب زادت من حجم عائدات الدولة اللبنانية، التي أصبحت تُلبي جزءاً كبيراً من نفقات الدولة الجارية وحدت من حاجتها للتمويل من مصرف لبنان. وقد أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة، في الحديث المشار اليه أعلاه، صحة تزايد إيرادات الدولة. واعتبر أن التعاون بين المصرف المركزي والحكومة أدى إلى إيرادات بنحو ٢٠ تريليون ليرة في آب/أغسطس، ارتفعت إلى نحو ٢٥ تريليوناً في أيلول/سبتمبر، ومن المتوقع أن تسجل نتائج إيجابية في تشرين الاول/ أكتوبر الحالي.
حتى أن تراجع الموجودات السائلة الخارجية بالعملات الأجنبية لمصرف لبنان، بحسب بيان المصرف الصادر في ١٨ أيلول/سبتمبر الماضي والتي يعود سببها الى انخفاض سعر صرف اليورو بالنسبة للدولار، وزيادة المطلوبات الخارجية بشكلٍ طفيف نتيجة تدفق بعض المبالغ من الخارج، اضافةً الى ما يتطلبه الالتزام بتنفيذ آليات التعميم ١٥٨، لم يترك أية انعكاسات سلبية على سعر الصرف في ظل قرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة عدم المس بالاحتياطات والامتناع عن تمويل الدولة سواء بالليرة أو بالدولار.
اما بالنسبة الى من يعتبر أن استقرار سعر الصرف لا بد أن ينتهي مع انتهاء الموسم السياحي وتراجع عرض الدولار النقدي والتحويلات، متجاهلاً أن عرض الدولار في السوق المحلية لا يقتصر على الموسم السياحي، ففي ذلك تبسيط لآليات عرض وطلب الدولار في السوق اللبنانية.
ذلك أن التدقيق في حجم المبالغ المتداولة يدل على انها لا تقتصر على موسم الصيف، بل تتوزع على مدار السنة. خاصة إذا ما عرفنا أن حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان، بحسب تقديرات البنك الدولي، بـلغت ٦,٤ مليارات دولار في العام ٢٠٢٢، ليحلّ بذلك في المركز الثالث إقليميّاً، تتقدم عليه فقط كل من مصر (٢٨,٣ مليار دولار) والمغرب (١١,٢ مليار دولار).
وما يندرج تحت عنوان تحويلات لا يقتصر على التحويلات الفعلية، بل يشمل المبالغ النقدية التي يحملها الوافدين الى لبنان من مغتربين وسياح في أوقات مختلفة من السنة. وبينما التحويلات تتم على مدار السنة وبمبالغ متساوية الى حدٍ بعيد، تتوزع المبالغ التي يحملها الوافدون الى لبنان على مواسم السنة، من موسم الصيف الى موسم عيدي الميلاد وراس السنة وموسم التزلج في فصل الشتاء. بالإضافة الى موسمي عيدي الفطر والأضحى وغيرها من الاعياد التي تشهد بدورها قدوم المغتربين مع ما تيسر من مبالغ نقدية بالعملات الأجنبية.
في المقابل، ثمة من يعتبر أن تصاعد التوتر على حدود لبنان الجنوبية واحتمال توسع المواجهات مع العدو الإسرائيلي، ستدفع اللبنانيين الى الهروب من عملتهم الوطنية الى العملات الأجنبية، الامر الذي لا بد من ان يترك انعكاساته بشكلٍ او بآخر على سعر الصرف. إلا أن موجة الهروب هذه حصلت مع اشتداد الازمة المالية والاقتصادية منذ نهاية العام ٢٠١٩، ورسخها وزاد من شموليتها دولرة أسعار السلع الاستهلاكية التي انعكست على الخدمات التي أضحت بدورها مسَّعرة بالدولار.
أما الضغط الذي يُخشى منه على سعر الصرف فيتمثل بالتهافت على شراء السلع وتخزينها، ما ينعكس تزايداً في الطلب على العملات الأجنبية وبالتالي ارتفاعاً في سعر الصرف، نظراً لكون معظم السلع الاستهلاكية هي سلع مستوردة. كما ان تزايد الطلب على السلع يؤدي الى ارتفاع أسعارها وليس ارتفاع سعر الصرف وحسب، علماً أنه حتى الأسعار المقومة بالدولار تم رفعها عندما تراجع سعر الصرف. فيما تستمر اليوم أسعار السلع وسعر الصرف في استقرار نسبي.
انطلاقاً مما تقدم يُمكن القول إن فرص استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، لا تزال كبيرة إذا ما ثابر مصرف لبنان على الحفاظ على احتياطاته من العملات الأجنبية وعدم التورط مجدداً في تمويل عجز الموازنة العامة مما تبقى من أموال المودعين.
وتجدر الإشارة الى تدخل مصرف لبنان مؤخراً للحفاظ على استقرار سعر الصرف وإن بشكل محدود، انما يدل على أن استدامة الاستقرار لا تقوم على الامتناع عن التفريط بالاحتياطات وحسب، بل لا بد من مجموعة من الإجراءات والتدابير المكملة لها، لا سيما إعادة النظر بكافة التعاميم التي صدرت عن حاكمية مصرف لبنان منذ بداية الازمة وحتى يومنا هذا.
إلا أن هذا الاستقرار لسعر الصرف يبقى هشاً في ظل استمرار الشغور الرئاسي، وتفاقم الانقسام بين الأطراف السياسية الممسكة بمصير البلاد والعباد، وغير المهتمة بمقتضيات المصلحة الوطنية ومواجهة المخاطر التي تتربص بالوطن وابناءه. ولعل ما يزيد من هشاشة استقرار سعر الصرف عدم استناده الى خطة اقتصادية مُحددة الاولويات والأهداف، ولا يقل تأثيراً تلاشي دور الدولة وانعدام فاعلية مؤسساتها وتدني خدماتها.
اما التهديد الأخطر لاستقرار سعر الصرف فيكمن في إمكانية ان يتسبب تصاعد المواجهة في الجنوب اللبناني مع العدو الإسرائيلي الى حربٍ إقليمية تلاقي عملية طوفان الأقصى. وما يُمكن أن يُسببه ذلك من تعطيل لكافة محاولات المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، لا بل القضاء على ما تبقى من مقومات للاقتصاد الوطني. فهل من يُجنَّب لبنان الخطر المحدق به وبعملته واقتصاده؟