
في تاريخ البشرية لم يحدث الانتقال من نظام عالمي إلى آخر سلمياً، وإنما ارتبط ذلك بتطورات عنيفة انتهت إلى حروب مدمرة، أسفرت عن سقوط قوى وصعود أخرى، وتغيير القوى المسيطرة على عجلة القيادة.
نهاية الحرب العالمية الأولى شهدت سقوط روسيا القيصرية وصعود البلاشفة، وسقوط تركيا العثمانية وصعود القوميين الكماليين، وسقوط ألمانيا الإمبراطورية وصعود النازيين الهتلريين، وانتقال السيطرة على الشرق الأوسط من العثمانيين الأتراك إلى الإنكيز والفرنسيين. نهاية الحرب العالمية الأولى سجلت أيضاً انتصار القوى البحرية على القوى البرية. وقام على إثر ذلك نظام عالمي جديد تقوده القوى البحرية.
نهاية الحرب العالمية الثانية أسفرت عن إعادة تشكيل هيكل القوة، وإقامة نظام متعدد الأطراف، تحول بسرعة إلى نظام «ثنائي القطبية»، حيث أصبحت الولايات المتحدة وروسيا هما قائدتا العالم. الولايات المتحدة تحملت مسؤولية إعادة بناء أوروبا الغربية، خشية استمرار تمدد النفوذ الروسي عبر ألمانيا الشرقية وبولندا، وبدأت تنفيذ خطة مارشال الاقتصادية، وأقامت نظاماً دفاعياً مستقلًا مع حلفائها في إطار «حلف شمال الأطلنطي». وتحملت روسيا مسؤولية إعادة بناء القسم الشرقي من شمال العالم اقتصادياً وسياسياً، فأنشأت «الكوميكون» لتنظيم التعاون والتنمية الاقتصادية. كما أنشأت «حلف وارسو» ليكون المنظمة الدفاعية لمجموعة الدول الاشتراكية.
هذه الثنائية في هيكل النظام العالمي، كانت منصة انطلاق الحرب الباردة بين الكتلتين، أو ما أطلقت عليه روسيا «المباراة السلمية»، وما أطلقت عليه الولايات المتحدة سياسة «الاحتواء». ومع ذلك فإن نظام «حق الفيتو» في مجلس الأمن ضمن لكل من روسيا والصين، ألا تتصرف أي من القوى الأخرى منفردة خارج الشرعية الدولية. وقد استمر هذا النظام حتى بدأت روسيا تعاني من «الشيخوخة» السياسية، وركود عملية التجديد التكنولوجي والاجتماعي، وتحول الحزب الشيوعي السوفياتي إلى جهاز بيروقراطي ضخم مليء بالفساد. حدث ذلك بينما كان التحالف الغربي يعمل منذ أوائل سبعينات القرن الماضي على تحقيق هدف واضح، هو اختراق سور برلين وإسقاطه من دون حرب. وقد قام زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس رونالد ريغان بهندسة عملية التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، ووقعت القوات الروسية في الفخ. وبينما كانت روسيا مشغولة بحرب أفغانستان، وبمفاوضات الحد من التسلح، كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تستعدان فعلاً للانقضاض على أوروبا الشرقية، لتحريرها من النفوذ السوفياتي. ثم سقط الاتحاد السوفياتي نفسه وتفكك من دون طلقة رصاص؛ فكان ذلك إعلاناً بانتصار الولايات المتحدة في «الحرب الباردة»، وسقوط النظام العالمي «ثنائي القطبية». نهاية الحرب الباردة كانت تعني عملياً قيام نظام عالمي جديد «أحادي القطبية»، ومع أن مؤسسات النظام الدولي لم تتغير شكلياً، فإن الولايات المتحدة استطاعت التحرك داخلها وخارجها، باعتبارها القوة المهيمنة. ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي، تحركت على جبهتين أساسيتين: الأولى هي شن حروب من دون الحصول على موافقة الأمم المتحدة، أو بالضغط على روسيا والصين للامتناع عن استخدام حق الفيتو. والثانية هي استخدام العقوبات الاقتصادية، خارج إطار النظام الدولي؛ فأصبحت العقوبات الأميركية المتنوعة نظاماً يمثل قيداً ثقيلًا على مرونة وتطور النظام العالمي، حيث فرضت واشنطن عقوبات ثانوية، أو مارست ضغوطاً على الدول التي لا تلتزم بتلك العقوبات.
السمة الأساسية للخلل في النظام العالمي الحالي تتمثل في الانقسام حول طبيعة هذا النظام وقيادته. في جانب تقف الولايات المتحدة ومعها دول حلف الأطلنطي، على رأس معسكر الدفاع عن النظام الأحادي القطبية. وفي الجانب الآخر تقف الصين وروسيا، تدعوان لإقامة نظام دولي متعدد الأطراف، يقوم على قواعد متفق عليها، وعلى الانفتاح والعولمة والاعتماد المتبادل، وإفساح المجال للدول النامية الصاعدة للمشاركة في قيادة العالم.
في كلمته الافتتاحية للمنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ في الأسبوع الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن النظام العالمي «الأحادي القطبية» الذي نشأ بعد الحرب الباردة قد انتهى، ووصف الإدارة الأميركية، ودول حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي بأنهم يعيشون في وهم كبير، وأنهم يفكرون بعقلية القرن الماضي. وقال إنهم يتجاهلون حقيقة بروز مراكز جديدة في العالم، تعمل على تطوير نفسها وفق الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اختارتها، من دون وصاية أو تدخل من الولايات المتحدة أو غيرها. وعندما تعرض للحرب الأوكرانية استبعد بشكل قاطع تقديم تنازلات تتعلق بضمان أمن بلاده، واتهم الدول الغربية بدفع أوكرانيا إلى كارثة أكبر، بتشجيعها على مواصلة الحرب، بدلاً من التفاوض من أجل السلام. وهاجم بوتين نظام العقوبات الغربية ضد بلاده، وقال إنها ارتدت عكسياً عليهم، في صور نقص في إمدادات الطاقة والغذاء، وارتفاع التضخم والركود.
كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ الموجهة إلى المنتدى نفسه ومداخلاته وتصريحاته في الأشهر الأخيرة، تدعو إلى ضرورة إقامة «نظام عالمي متعدد الأطراف»، وتمكين الدول النامية الصاعدة من أن تلعب دوراً أكبر في قيادة النظام العالمي الجديد، كي تحقق تنمية متوازنة ومنسقة ومستدامة تشمل جميع مواطنيها وتعود بالخير عليهم، وبناء مستقبل مشترك مع العالم أجمع يقوم على الخير والسلام. وأكد شي أن الصين تقف إلى جانب روسيا وغيرها من الدول التي تسعى إلى المشاركة في تعميق وتوسيع نطاق التعاون في إطار العولمة.
الهدف المعلن للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة هو إطالة أمد الحرب الأوكرانية، والاستمرار في إمدادها بالسلاح والذخيرة والمال والمعلومات المخابراتية، والتدريب اللازم. وقد أدت هذه الإمدادات فعلًا إلى جعل الرئيس الأوكراني زيلينسكي أكثر تشدداً، وأقل انفتاحاً على فكرة التفاوض، أو القبول بأي تنازلات جغرافية في المناطق الحدودية بين البلدين. جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي أكد هذه الاستراتيجية، لكنه قال إن الحوار مع كييف يتضمن أيضاً بحث طبيعة الضمانات التي يمكن أن تقدمها أوكرانيا في حال التفاوض مع الروس. الرئيس الفرنسي ماكرون يقف في الصف نفسه، وقال إن فرصة التفاوض بين موسكو وكييف ستظهر فقط بعد أن تتمكن القوات الأوكرانية من الانتصار والسيطرة على إقليم دونباس ومنطقة جنوب شرق أوكرانيا بأكملها. وأكد على المعنى نفسه الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ. بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا يدعو إلى استمرار الحرب «حتى هزيمة روسيا»!
اتساع نطاق تداعيات الحرب الأوكرانية على مستوى العالم كله، من شأنه أن يقيم حاجزاً بين الولايات المتحدة ورغبتها في إشعال حرب جديدة مع الصين؛ فالعالم لا يتحمل حربين في وقت واحد، ولا الولايات المتحدة تتحمل الدخول في حرب مع الصين. ومع ذلك فإن النظام العالمي لن يبقى على حاله، ولن تتوقف محركات تغييره. لكن سقوط النظام «الأحادي القطبية»، وقيام نظام جديد «متعدد الأطراف» هو عملية تاريخية، وليس انتقالاً من حالة إلى حالة. وإذا طالت الحرب الأوكرانية فإنها ستعجل بقيام النظام الجديد، وليس ترسيم النظام القائم، على عكس ما تعتقد الولايات المتحدة. روسيا بدأت فعلاً في تعزيز علاقاتها خارج أوروبا، لكنها لن تقبل بالعزلة عنها. أما الصين، وحتى تزيل أي وهم لدى صناع الحرب، فإنها تعمد إلى استعراض قوتها العسكرية من باب أن إظهار الاستعداد للحرب يمنع وقوعها. وفي غير الحرب فإن ميادين ممارسة القوة الناعمة والاختراق من الداخل، واستعراض الأسلحة الجديدة، تمثل ساحات واسعة للمنافسة. نحن فعلاً في خضم حرب تغيير النظام العالمي.
The post الحرب العالمية الثالثة… والطريق إلى تغيير النظام الدولي بالقوة appeared first on جريدة الشرق اللبنانية الإلكترونيّة – El-Shark Lebanese Newspaper.