بقلم محمد السماك
«اساس ميديا»
استدرجت الحرب في أوكرانيا العالم إلى حافة الصراع النووي. لا روسيا تستطيع أن تتحمّل هزيمة عسكرية – سياسية تُطيح بزعيم الكرملين الرئيس فلاديمير بوتين، ولا الولايات المتحدة تستطيع أن تتحمّل انتصاراً عسكرياً – سياسياً روسيّاً يُطيح بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، واستطراداً بالتحالف الأميركي – الأوروبي.
الدبلوماسيّة أم النوويّ؟
أدّى استمرار الحرب بالأسلحة التقليدية حتى الآن إلى استنزاف الطرفين اقتصادياً وماليّاً واجتماعياً، وبات المخرج الوحيد لوقف هذا الاستنزاف إمّا اعتماد دبلوماسية تؤدّي إلى تسوية سياسية، أو اللجوء إلى «آخر الدواء»، وهو السلاح النوويّ.
تجري في الوقت الحاضر محاولات أميركية وأوروبية لإقناع الرئيس الأوكراني بالتفاوض مع روسيا بعدما تعثّرت هذه المحاولات عن سابق تصوّر وتصميم لممارسة المزيد من الضغط على الكرملين. وتطرح تركيا نفسها وسيطاً مرّة ثانية. ولكن حتى الآن من دون جدوى.
بريطانيا على خطّ النوويّ
يترافق هذا التحرّك السياسي مع تحرّك عسكري نوويّ لعلّ أبرز تجلّياته في بريطانيا، خلافاً لكلّ الاعتقادات والتطوّرات السابقة. فبريطانيا تملك أصغر ترسانة نووية بين الدول الكبرى روسيا وأميركا وفرنسا والصين. والوسيلة الوحيدة لإطلاق سلاحها النووي هي «الغوّاصات». لا تملك بريطانيا صواريخ عابرة للقارّات مثل كوريا الشمالية. ولا يزيد حجم ترسانتها النووية على 225 رأساً (حتى عام 2010). مع ذلك قرّرت خفض هذا العدد إلى ما دون 180 رأساً في عام 2015.
إنّ وحدانيّة العدوّ (أي روسيا) لا تتطلّب حجماً نووياً أكبر، خاصة مع التحالف مع الدول النووية الأخرى التي تشارك بريطانيا الموقف من روسيا وعلى رأسها الولايات المتحدة.
لندن قادرة على أن تطال موسكو
تغيّر هذا الموقف البريطاني بعد الحرب الأوكرانية. يعكس هذا التغييرَ القرارُ الجديدُ الذي اتّخذته الحكومة البريطانية برفع حجم ترسانتها النووية إلى 260 رأساً. ويترافق هذا القرار مع قرار آخر بالتكتّم عن عدد الرؤوس النووية التي تحملها الغوّاصات البريطانية على عكس ما كان سائداً في السابق.
من المعروف أنّ بريطانيا تحرص على أن تُبقي إحدى غوّاصاتها التي تحمل رؤوساً نووية موجودة في مكان ما من البحر بحيث تكون قذائفها قادرة على الوصول إلى أهدافها الاستراتيجية في العمق الروسي: موسكو والكرملين!!
قرّرت بريطانيا الآن رفع عدد هذه الغوّاصات إلى أربع، على أن تبقى في مواقع سرّية في المحيط، بعيداً عن أيّ خطر، وأن تُحاط بشبكة أمان إلكترونية تضلّل الصواريخ المعادية (الروسيّة) التي قد تستهدفها.
تراجع السياسة وتقدُّم الصدام
يعكس هذا الموقف البريطاني الانقلابي الجديد على الموقف السابق الشعورَ بخطر اصطدام المحاولات الجديدة لتسوية سياسية في أوكرانيا بجدار مسدود. ذلك أنّ فشل هذه المحاولات لا يُبقي أمام الدول المتصارعة، روسيا من جهة وحلف شمال الأطلسي من جهة ثانية، من خيار آخر سوى الصدام، والصدام النووي حصراً.
تحسب بريطانيا لإمكانية تطوّر المعارف الإلكترونية الحديثة لدى روسيا لتحديد مواقع غوّاصاتها النووية، ثمّ المبادرة إلى توجيه ضربات استباقية إليها. وتعني هذه الحسابات إمكانية «التسرّع» في توجيه الضربات النووية، خلافاً لِما حدث في أزمة «خليج الخنازير» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق في الستّينيات من القرن الماضي. إذ إنّ «عدم التسرّع» أبقى على الاتصالات بين واشنطن وموسكو مفتوحة إلى أن تمكّن الرئيسان جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف من حلّ الأزمة دون لجوء أيّ منهما إلى السلاح النووي.
تعكس التحوّلات البريطانية الجديدة مخاوف جدّية من عدم وجود قاعدة «لعدم التسرّع» باتّخاذ القرار، سواء في الكرملين أو في البيت الأبيض.
يثير هذا الواقع السلبي الجديد قلق الدول النووية الأخرى، وفي مقدَّمها الصين التي تواجه صراعاً مع الولايات المتحدة من أجل تقرير مصير تايوان، وكوريا الشمالية المستنفِرة ضدّ العقوبات والمقاطعة والعزل المفروض عليها من الولايات المتحدة وحلفائها. وكذلك الهند وباكستان، وهما دولتان لم تعرفا طعم السلام والتعايش الودّيّ منذ الانفصال الكبير في عام 1947 الذي أدّى في حينه إلى مقتل أكثر من مليون شخص.
إنّ تحوّل بريطانيا من مرحلة خفض ترسانتها النووية التي استمرّت عدّة عقود، إلى تعزيز هذه الترسانة كمّاً ونوعاً وانتشاراً، يشير إلى تحوّل الصراع الدولي من المجابهة بالسلاح التقليدي، وهو سلاح مدمّر كما تعكس ذلك صور الكوارث الإنسانية التي أصابت مدن أوكرانيا المختلفة، إلى المجابهة بالسلاح النووي الذي قد يضع العالم كلّه تحت مظلّة الإشعاعات النووية القاتلة والمدمّرة.
The post العودة إلى السلاح النوويّ appeared first on جريدة الشرق اللبنانية الإلكترونيّة – El-Shark Lebanese Newspaper.