تقترب الازمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان من إتمام سنتها الخامسة، فيما تدور الحلول المنشودة في متاهة الانتظار من دون أن يلوح في الأفق أي محاولة جدية من قبل حكومة تصريف الاعمال لوضع حد للأزمة وتداعياتها، لا بل أن جُل ما تُقدم عليه هو شراء للوقت ووعود كلامية سرعان ما تمحوها الوقائع. حيث تبقى الإصلاحات الاقتصادية (إذا وجدت) غير كافية لإنقاذ البلد من ازمته، بحسب ما جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي في أيار الماضي.
ويستمر الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية للسنة الثانية على التوالي الامر الذي يُسرّع في تفكك مؤسسات الدولة وتلاشي سلطتها، وتزيد المواجهات المستمرة بين حزب الله والعدو الإسرائيلي على ارض الجنوب اللبناني منذ ما يُقارب العام الأوضاع تعقيداً. كما تتسبب أزمة اللاجئين السوريين العالقة منذ العام 2011 وتعثر عودتهم الى بلادهم، بزيادة الأعباء على الاقتصاد الوطني وتعميق أزمته.
وتتمثل أخطر تجليات ازمة لبنان المالية والاقتصادية بخسارة عملته الوطنية ما يزيد على %95 من قيمتها، الامر الذي أفقد مداخيل اللبنانيين وخاصة الموظفين منهم قوتها الشرائية لا سيما منها ما هو بالليرة اللبنانية، وذلك بالتزامن مع جائحة COVID-19 وتداعياتها الاقتصادية. كما تزامن الانهيار مع تعثر القطاع المصرفي واحتجاز المصارف لمدخرات المودعين وتحديد سحوباتهم منها، بالتكافل مع مصرف لبنان، بمبالغ متواضعة لا تُلبي سوى جزءٍ يسير من مصاريفهم اليومية.
أما المتضررين من الانهيار الكبير في قيمة الليرة فكان في مقدمتهم موظفو ومتقاعدو القطاعين العام والخاص، الذين أضحى العدد الأكبر منهم تحت خطّ الفقر نتيجة التضخّم الذي قضى على قدرتهم الشرائية. وما زاد الامر سوءً توقف الدعم عن الخدمات العامة الأساسية من كهرباء ودواء ورعاية صحيّة. الامر الذي جعل القطاعين العام والخاص عاجزين عن التعويض على موظفيهم قيمة الانخفاض في قوة رواتبهم الشرائية او جزءٍ منه على الأقل لتمكينهم من الاستمرار في القيام بواجباتهم الوظيفية وتلبية احتياجاتهم الحياتية.
علماً أن متوسّط الأجور بحسب “الدولية للمعلومات”، كان قد بلغ قُرابة الـ 71 دولاراً في مطلع شهر آذار/مارس من العام 2021 بدولار السوق الموازية في حينه، ليعود وينخفض إلى اقل من 30 دولاراً في شهر كانون الأول/يناير من العام نفسه، وذلك قبل اقرار الزيادات على الأجور التي تبقى ضئيلة إذا ما احتسبت بقيمتها الحقيقية او قوتها الشرائية.
وقد أثبتت العديد من مؤسسات القطاع الخاص التجاري والصناعي قدرتها على استعادة توازنها ومتابعة اعمالها والتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية والصمود وإن بصعوبة. وقد ساهمت هذه المؤسسات بإعادة إطلاق عجلة نشاطاتها من دون انتظار الإصلاحات المتوجبة على الدولة والمتوقعة منها، وسرعان ما بادرت الى دفع رواتب موظفيها بشكل كامل أو جزئي بالدولار الأميركي الامر الذي ساعد هذا القطاع على النهوض مجدداً.
في المقابل، لا تزال حكومة تصريف الاعمال تمتنع عن اعتماد مقاربة علمية لتصحيح رواتب موظفي ومتقاعدي القطاع العام. وتقتصر محاولاتها على صرف مساعدات لا تدخل في أساس الراتب، ولا تدخل بالتالي لا في احتساب المعاش التقاعدي ولا في احتساب تعويض الصرف، ما يُخفي محاولة الحكومة اسقاط حقوقٍ مكتسبة للموظفين والعسكريين والمتقاعدين. علماً أنه وعلى الرغم من الزيادات التي اقرت منذ العام 2020، لم تتخطَ رواتب موظفي ومتقاعدي القطاع العام الـ %20 مما كانت عليه قبل الانهيار.
وفي عدم مبادرة الحكومة الى تصحيح رواتب موظفي ومتقاعدي القطاع العام عامةً ورواتب الاجهزة العسكرية والأمنية والمتقاعدين خاصةً، وفق أسس علمية تكفل العدالة بين الاسلاك والفئات الوظيفية إجحافاً صريحاً بحقهم وتعدياً على حقوقهم المكتسبة. بل إن الزيادات المؤقتة على الرواتب والأجور التي أقرت حتى اليوم، لا تمت بصلة الى ما يحتاجه فعلياً الموظفون والمتقاعدون لعيش حياة كريمة.
وأي تصحيح للرواتب والأجور، لا بد من أن يتم وفق معايير محددة وموحدة بين جميع موظفي ومتقاعدي القطاع العام، وهو الأمر الذي لم تتقيد به حكومة تصريف الاعمال عند اقرارها للزيادات الأخيرة. من هنا إن وصف الزيادات الأخيرة بالعشوائية وغير القانونية ليس من باب المبالغة او التجني، بل هو توصيف لحقيقة الزيادة التي تضرب مبدأي العدالة والمساوات كما تتجاهل المؤشرات الاقتصادية ومعدل التضخم الذي يؤدى الى تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور والزيادات عليها.
وعلى الرغم من تكليف الحكومة خلال جلسة 28 شباط 2024، مجلس الخدمة المدنية اعداد تصور جديد للرواتب والأجور خلال ثلاثة اشهر تنتهي في حزيران الماضي، خلا جدول اعمال جلسة مجلس الوزراء التي كان مقرر عقدها الثلاثاء 10 ايلول من أي بند يلحظ خطة لتصحيح الرواتب والأجور. وكذلك لم يلحظ مشروع قانون الموازنة لسنة 2025 اية اعتمادات مخصصة لتصحيح الرواتب والأجور. فكان لا بد من منع العسكريين المتقاعدين انعقاد جلسة الثلاثاء المنصرم، كما يجب منع انعقاد اية جلسة للحكومة لا يكون البند الأول على جدول اعمالها تصحيح الرواتب والأجور.
والامتناع عن تصحيح الرواتب والأجور بحجة ضرورة الحفاظ على توازن الموازنة عذر في غير مكانه، سيما وأنه غالباً ما تعمد الحكومات الى زيادة العجز المالي لمواجهة الانكماش وتحريك عجلة الاقتصاد. علماً أننا لسنا هنا بصدد التشجيع على العودة الى أن تفوق نفقات الدولة إيراداتها، سيما وأن الموازنة العامة هي في حالة عجز فعلي وما التوازن الحالي إلا توازن مصطنع جراء عدم ادراج مستحقات الدين العام فيها.
الامر الذي يجعل من طرح المنبر القانوني للدفاع عن حقوق العسكريين المتقاعدين، الذي يقترح قاعدة علمية لاحتساب الرواتب والاجور الجديدة تعتمد النسبية ومرجعيتها قانون سلسلة الرتب والرواتب رقم 46/2017 وتعديلاته، حلاً منطقياً لتصحيح الرواتب والأجور بعيداً عن الزيادات العشوائية والتمييز غير المبرر بين فئات الموظفين والاسلاك المختلفة. حيث يُمكن الحصول على نسبة موحدة للزيادة المطلوبة، من خلال قسمة اعتمادات الرواتب والأجور المرصودة في موازنة العام 2025 على مجموع الرواتب والأجور الإجمالية بحسب قانون السلسلة المذكور اعلاه.
فسياسة الهروب الى الامام والعشوائية التي تمارسها حكومة تصريف الاعمال في مقاربتها لمختلف القضايا المتعلقة بالحلول المنشودة للازمة المالية والاقتصادية، تُفاقم الأزمة وتجعل الحلول اكثر صعوبة وأعلى كلفة. وبالتالي إن تمادي الحكومة في تجاهل الترابط بين النهوض الاقتصادي ومعالجة أسباب الازمة المالية والاقتصادية، وبين تصحيحٍ للرواتب والأجور يكفل حياةً كريمة للعسكريين ولموظفي القطاع العام والمتقاعدين، يجعل من معالجة الازمة وتداعياتها بعيدة المنال.