العرب نيوز (رؤوس – أقلام ) بقلم المحامي جواد بولس – من المتوقع أن تنتهي أزمة مدرسة “مار متري” في القدس الشرقية كما انتهت جميع الأزمات التي عصفت بمؤسسات البطريركية الأرثوذكسية منذ مائة عام؛ ولن ينال، بعد انتهائها، المواطنون العرب المسيحيون الأرثوذكسيون حقوقهم الكاملة ولا حتى جزءا صغيرا منها. فبعد العاصفة التي أعقبت إعلان المسؤولين في البطريركية عن قرارهم بإغلاق المدرسة، التي تضم بين جدرانها نحو ثلاثمائة طالب فلسطيني من سكان البلدة القديمة، وتفاديا لتبعاتها المتوقعة، أعلنت البطريركية مضطرة عن تشكيل لجنة مؤلفة من عدد من الشخصيات المقدسية للبحث في مسببات الأزمة ولطرح تصوّراتها والسبل لحلها.
ولقد اصدرت اللجنة قبل يومين توصياتها وفي مقدمتها جاءت التوصية الاهم ، من حيث النتيجة المتوخاة وهي، كما ورد في النص: “ضرورة إلغاء قرار إغلاق مدرسة مار متري من قبل بطريركية الروم الأرثوذكس بشكل فوري والتأكيد على أهمية هذا الصرح التربوي والنهوض به وضمان استدامته “. بعد استلام توصيات اللجنة، أصدرت البطريركية بيانًا أفادت نهايته على انه “في خطوة تعكس روح التعاون والمسؤولية قرر غبطة البطريرك إلغاء قرار لجنة المدارس بإغلاق المدرسة.. واشار غبطته الى انه بفضل الله والجهود المشتركة والتعاون، خاصة مع اللجنة المختصة، سيظل باب التعليم مفتوحًا للطلاب في مدرسة مار متري..”. هذا كما جاء في البيان الذي اعفى البطريرك وهو رئيس الهرم بلا منازع من مسؤوليته عن القرار الاصلي ولا يتطرق للب القضية والخلل في نهج البطريركية . أتمنى، كما يتمنى كل فلسطيني غيور على مستقبل المجتمع الفلسطيني المقدسي، أن تنتهي هذه الأزمة وتبقى المدرسة صرحًا تربويا متاحًا لأهل البلدة القديمة، وأن تسلَم بناية المدرسة نفسها من أية “مغامرة” قد يقدم عليها القيّمون على ادارة شؤون هذه البطريركية بحجة أزماتها المالية، كما كان يحصل معها من حين لآخر منذ عقود طويلة.
لا أقول هذا من باب التجني أو عدم فهم المقروء؛ فأنا اكتب مقالتي بعد مرور مائة عام على تأسيس “المؤتمر العربي الأرثوذكسي الأول” الذي انعقد في مدينة حيفا في أواسط عام 1923 وجاء انعقاده في ظروف سياسية واجتماعية تكاد تكون مماثلة لظروفنا الراهنة، خاصة في كل ما يتعلق بطبيعة العلاقات بين العنصر اليوناني، اي اليونانيين، وبين المواطنين العرب الأرثوذكسيين. ولا اقصد بأولئك اليونانيين مجموعة الرهبان الأعضاء في “اخوية القبر المقدس” وعلى رأسهم البطريرك والكهنة الذين يشكلون معه ما يسمى “المجمع المقدس” وحسب، بل حكومات اليونان المتعاقبة ايضا والتي كان مسؤولوها يتدخلون من اجل ابقاء الهيمنة اليونانية الاستعمارية على الكنيسة الأرثوذكسية في بلادنا.
لم تبدأ الأزمة العربية الأرثوذكسية في العام 1923؛ فالنزعة الاستعمارية واضطهاد الرعية المسيحية الاصيلة في البلاد غذتها الامبراطورية العثمانية، ورسخها، بدعم من العثمانيين، اليونانيون الذين استولوا على البطريركية وكنوزها التراثية، وساندها لاحقا الانتداب البريطاني الذي وقع على الاردن وفلسطين. لقد اصدرت سلطات الانتداب “قانون البطريركية الأرثوذكسيه لعام 1921 ” من دون أن يراعي حقوق الرعية المسيحية، فكان محبطًا ومخالفًا لآمالها الوطنية. وكردّة فعل على اصدار القانون وامتثالا للروح النهضوية الوطنية الأرثوذكسية التي كانت سائدة وقتها، بادرت قيادات الأرثوذكسيين الى عقد مؤتمر يجمع الشمل ويوحد الصفوف ويعلي كلمة أصحاب البلاد في وجه مستعمريها، فكان “المؤتمر العربي الأرثوذكسي الاول” في مدينة حيفا. لقد تداعت الوفود التي مثلت مسيحيي المدن والقرى في شرقي الاردن وفي فلسطين الى لقاء تاريخي لم يستطع البريطانيون ألا يتفاعلوا مع تداعياته ولو الى حين ؛ فأصدر المؤتمرون بيانا تضمٌن مجموعة قرارات، منها: تفعيل مجلس مختلط ثلثاه من العلمانيين الوطنيين وثلثه من الاكليروس؛ فتح مدرسة اكليريكية وافساح المجال لابناء الرعية من الارتقاء الى اعلى درجات الكهنوت وهو ما كان متاحًا للكهنة اليونانيين فقط: لا يحق للبطريرك تمثيل الملة الأرثوذكسية الا بموافقة المجلس المختلط؛ مطالبة الحكومة بان يكون تأجير الاوقاف بالمزاد العلني.. وتعيين عضوين من اعضاء اللجنة التنفيذية للاشتراك في تأجير الاوقاف؛ مطالبة الحكومة باسترجاع الاملاك التي بيعت.. وان كان لا بد من بيعها فبالمزاد العلني وأن تكون الاولوية بالشراء للمعاهد الخيرية الطائفية؛ مطالبة الحكومة بالايعاز الى لجنة تصفية الديون باصدار ميزانية باسرع ما يستطاع. كما صدر في نهاية المؤتمر القسَم الأرثوذكسي الذي كان نصه: “إننا نقسم بالله العظيم وبصليب سيدنا المسيح الكريم وبإنجيله المقدس أن نحافظ بكل قوانا على قرارات المؤتمر الأرثوذكسي العربي الأول كافة، وألا ننحاز الى الأعداء المناهضين لهذه النهضة، وإن خالفنا هذا العهد نكون مسؤولين بين يديّ الله ونشهده على ذلك”. ما أشبه أمسنا بيومنا، وما احوج بعضهم الى مثل هذا القسم.
لقد توالت الاحداث وازداد الاجحاف بحق الرعية العربية وتهميشها؛ ولم تتوقف حكومة الانتداب عن دس مناوراتها ومماطلاتها حتى شعرت قيادات الطائفة بضرورة التحرك واستعادة القوة وتوحيد الكلمة، فدعت الى عقد المؤتمر الأرثوذكسي الثاني الذي التأم هذه المرة عام 1931 في مدينة يافا. حضر المؤتمر 85 مندوبا عن جميع انحاء فلسطين وشرقي الاردن؛ وقرر المؤتمرون التمسك بقرارات المؤتمر الاول والتعهد “بالاستمرار في مقاطعة الانتخاب البطريركي، وعدم الاعتراف في اي بطريرك لا يشترك الشعب في انتخابه حتى تنال الطائفة حقوقها كاملة”. وعبّروا عن رفضهم “لتدخل قنصل اليونان في القدس أو غيره من الاجانب في امور البطريركية والاخوية والاماكن المقدسة لانه تدخل اجنبي لا يبرّره ما لهذه البطريركية والاخوية والمزارات من الصبغة الفلسطينية.” جاهروا بما لا يقوله اليوم بيننا كثر.
لا مجال في هذه العجالة للاستفاضة حول تاريخ هذه العلاقة اليونانية العربية المسيحية الموجعة والمستفزة؛ فبعد المؤتمر الأرثوذكسي الثاني توالت النضالات العربية المسيحية ضد سياسة الاستعلاء اليونانية والعبث بحقوق الرعية والتفريط في ممتلكاتها، وقد تم في سبيل تنظيم مواجهتها عقد عدة مؤتمرات، قبل عام النكبة وبعدها.
لقد احتضنت عمان في العام 2007 احد اهم تلك المؤتمرات، الذي شاركت فيه وفود تمثل الوجود المسيحي الأرثوذكسي في الاردن وفي الضفة الغربية المحتلة وفي الداخل الفلسطيني. عقد المؤتمر في ظروف استثنائية وعاصفة حيث كانت اصداء صفقات بيع عقارات باب الخليل تملأ أجواء الشرق غضبا وزبدا. اكد معظم المتداخلين على اعتبار قضية عقارات البطريركية والمقدسات المسيحية في فلسطين والاردن قضية وطنية اردنية/ فلسطينية ولا يمكن لاية جهة أن تتلاعب فيها او أن تغيّبها تحت أي طائل أو ذريعة. بالرغم من حدة النقاشات والمناكفات التي اثارها بعض المشاركين المدافعين عن البطريركية، فقد تجلت الروحان الوطنيتان، الاردنية والفلسطينية، بنص البيان التاريخي الختامي حيث تضمن قرارا بتأثيم القيمين على إدارة البطريركية والتأكيد على مسؤوليتهم ودورهم في التفريط بعقارات الكنيسة وضرورة محاسبتهم ومحاسبة أعوانهم من المستشارين والمنتفعين، واقصائهم عن مواقعهم .
بعد عشرة اعوام من مؤتمر عمان وتحديدا في الاول من شهر اكتوبر/ تشرين اول سنة 2017 ، وبعد تفاقم ظاهرة التفريط بعقارات الكنيسة، دعت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس المركزي الأرثوذكسي في فلسطين وفي الاردن، والحراك الشبابي العربي الأرثوذكسي لعقد “المؤتمر الوطني لدعم القضية العربية الأرثوذكسية” تحت شعار ” أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية قضية أرض ووطن وانتماء وهوية”. عكس شعار المؤتمر موقف الداعين المساند للقضية العربية الأرثوذكسية والمعارض للتفريط باوقاف الكنيسة وعبر عن الروح التي سادت اعمال المؤتمر، الذي جاءته الوفود “بدافع الشعور بالمسؤولية الوطنية وتلبية لنداء الواجب الوطني والقومي والانساني، تجاه قضية استحكم فيها الظلم الواقع، على امتداد خمسة قرون، على العرب الأرثوذكسيين كجزء أصيل من شعبنا الفلسطيني، حيث الهيمنة والاستئثار من العنصر اليوناني على مقدرات الكنيسة العربية الأرثوذكسية للدرجة التي بلغ فيها ضياع الكنيسة والارض والمستقبل واقعا قائمًا ينذر بمخاطر كارثية حقيقية تهدد مستقبل القضية الوطنية الفلسطينية”. لقد نجح المؤتمرون بالكشف عن المسؤولين عن “ضياع الكنيسة والارض والمستقبل” تماما كما تعرّف اليهم من قبلهم المؤتمرون في عمان؛ وصدرت بحقهم في الحالتين القرارات المناسبة؛ ولكن .. مرت السنون وما زالت “الهيمنة والاستئثار من العنصر اليوناني” على حاله، وما زلنا “نحن العرب الأرثوذكس جزءا اصيلا من شعبنا الفلسطيني” وما زالت عقارات الكنيسة تتقلص وتتبخر .. والناس تسأل وتتساءل لماذا وكيف؟