لم يكن أبوبكر أحمد بلفقيه قد أكمل عامه العاشر بعد عندما نشبت شرارة الحرب في اليمن عام 2014، وكان يعتقد أن ما يحدث في بلده من دراما عنف ومطاردات دامية وسقوط ضحايا مجرد ألعاب فيديو قتالية، حيث لم يكن يدرك الشاب الصغير، حينها أنه ولد في زمن القصف وصوت القاذفات التي تحاصر طفولته بالرعب. جيل أبوبكر في اليمن لم يتربَّ على أفلام الكارتون بل على نشرات الأخبار التي تتصدرها مآسي اليتم والفقد والدمار. وبعد 7 أعوام قرر الشاب أن يمتلك سلاحاً مضاداً للعنف، إنه سلاح محمول، لكنه لا يقتل بل يبث الحياة من بين الركام، عازماً توظيف مهاراته في عالم التصوير ليجسد معاناة مجتمعه عبر لقطات نابضة تضيء الجانب المظلم الذي لا يعرفه كثيرون عن اليمن. فكوّن ألبومات فوتوغرافية تتضمن وجوهاً مثقلة بالتعب والتأمل والحزن.. ومن أجواء الأعراس وساحات الأسواق غاص في دهاليز التاريخ والتراث والفلكلور، ليرسم ابتسامة بدلاً من الغصة، ويزرع وردة في مواجهة الرصاصة، ويشعل شمعة وسط ظلام الأزمات.
إلى ذلك، استطاع المصور الفوتوغرافي الصغير أبوبكر بلفقيه، ابن مدينة المكلا اليمنية، أن يغير المشهد الدامي بعدسة هاتف محمول، مجسداً صورة حضارية وإنسانية تشع بقيم الجمال والسلام والحب في بلاد مذبوحة تتجرع ألوان الذل والحرمان وتكتوي بجمر الفقر والمجاعة والهوان. أبوبكر أحمد بلفقيه هو مصور من محافظة حضرموت، بدأ التصوير عام 2017 بهاتف موبايل ملتقطاً عبره قصصاً وصوراً من ذاكرة حرب أحرقت قلوباً، ولا تزال مستمرة، ليشارك تلك الصور عبر صفحته على إنستغرام التي اجتذبت الآلاف من المتابعين. هذا فضلاً عن أن صور تتداولها منصات المنظمات الإنسانية ووكالات الإعلام العالمية، كونها تعبر عن أحوال البلد المقهور، وأحلام شعبه المغلوب على أمره.
“اليمن ليس بلد حرب”
يقول أبوبكر أثناء حديثه مع “العربية.نت” إن “العالم لا يعرف عن اليمن سوى أنه بلد حرب، وهذا ليس صحيحا. لذا فإنني أسعى من خلال صوري إلى القول إن الشعب اليمني لا يزال تواقاً للحياة مهما تكالبت عليه الظروف والحروب. وعلى الرغم من أسوار الحصار وضربات الفقر المتلاحقة ومطرقة الظروف الاقتصادية، فإن البلد المنهك بالوجع والفجائع، لا يزال يباهي بمبدعيه وفنونه الجميلة بوصفها الورقة الأخيرة الرابحة في معارك العنف وجبهات الرعب والدم”.
وفي ذات السياق، يروي أبوبكر قصته مع التصوير قائلاً: “ولدت موهبتي بالتصوير وسط ركام الحرب، لكنني لم أستسلم جراء الحصار وتضييق سقف الحريات، فقد كان هدفي الأسمى هو إيصال رسالتي عبر الصور. وكنت عندما أنزل إلى الشارع موجهاً عدستي نحو مادة بصرية أو شخص معين، تستوقفني نظرات القلق في عيون المارة، فأجدهم يرمقونني بحذر، ثم يسألون بفضول عن طبيعة الأمر الذي أقوم بتصويره وأين سيتم بثه أو نشره، والوسيلة التي ستستخدمه”. ويضيف: “في بلد فتكت به الحرب، لا أقدر أن أحقق أبسط أنواع الدخل المادي المستقر، بسبب عدم توفر فرص العمل وصعوبة التنقل من محافظة إلى أخرى”.
يواصل أبوبكر الذي أكمل تعليمه الثانوي العام الماضي، حديثه عن تجربته في التصوير، معتبراً أنها تمثل بالنسبة له هواية لكنها تحولت لمصدر رزق، ثم صارت “مهمة إنسانية” ينقل من خلالها “إشعاعات سلام ورسائل تسامح في زمن الحرب”، لافتاً إلى أنه حريص على اصطياد صور تبث الأمل والتفاؤل، وتعيد البهجة من جديد إلى وجدان الشعب اليمني الحزين.
توثيق معالم تاريخية ومناظر طبيعية
بحوزة أبوبكر صور عديدة تحمل قصص تعايش وسلام، منها صورة لرجل يمسك سلاحا، وفي فوهة السلاح تتدلى الورود، بينما يقف مستمتعاً بمشاهدة رقصات تراثية من أحد الأعراس الشعبية. وعن هذه الصورة يقول أبوبكر: “التقطت هذه الصورة بهاتفي في صنعاء، وتحديداً مديرية شلال بني مطر”، مشيراً إلى أنه مهتم “بتوثيق معالم تاريخية ومناطر جميلة من أرياف اليمن، بالتناغم مع مظاهر التراث وحياة الناس ونبض الشارع”.
أبوبكر طاف أكثر من مدينة في اليمن وهو بعمر الـ18 من دون أن يتلبّسه الخوف في ظل نشوب العنف واحتدام الصراعات. وهو يهوى المغامرة ويقبل المخاطرة على الحدود ونقاط التفتيش من أجل اصطياد لقطة إنسانية ملهمة. وعن هذا الموضوع يقول: “زرت محافظة صنعاء وعدن وشبوة ومديريات حضرموت شبام وسيئون وتريم، وجميعها التقطت فيها العديد من الصور التي تبرز جمال الموروث وعظمة التاريخ وبساطة الناس وطيبتهم رغم الوجع الذي ينغص يومياتهم”.
يسعى أبو بكر لأن ينقل صور تجسد الوضع المأساوي الذي يعيشه اليمن إلى العالم، لكنه يواظب أيضاً على إبراز الجانب الحضاري والثقافي المشرق، ويقول: “لديّ أفكار كثيرة، لكن نظراً لقلة الدعم وضعف إمكانياتي أكتفي أحياناً بالصور التي أنقلها عبر الهاتف المحمول”. ولا يخفي الشاب طموحه في الفوز بجائزة عالمية في مجال التصوير الفوتوغرافي.
حمل السلاح باليمن أقل خطورة من الكاميرا
وبحسب أبوبكر، فإن أقرب الصور إليه هي التي “تختزل روح اليمن، وتحمل جرعات كبيرة من التفاؤل والأمل من عمق الألم”. ويتابع: “أحاول تأليف قصص عن اليمن لتعريف العالم بحضارته وثقافته وطبيعة شعبه، ومنها صورة التقطتها لطفلين في مدينة المكلا، يضرب أحدهما صديقه بينما صديقه يقوم باحتضانه. ولديّ مكتبة صور للتراث الحضرمي والرقصات الشعبية ونفحات الفلكلور القديم، إضافة إلى سلسلة صور لجيش البادية الحضرمية القديم”.
لا يشكك أبوبكر بـ”سطوة الصورة وقدرتها على إسكات صوت المدافع وإخراس أزيز الرصاص”، معتبراً بأن الصورة المؤثرة هي التي تعالج قضايا السلام والعنف وتنقل معاناه الناس، من دون أن تتجاوز قيم المجتمع وتخالف عاداته وتقاليده وأعرافه وأخلاقياته.
ويضيف أبوبكر: “من خلال زيارتي للمحافظات اليمنية، أدركت أن حمل السلاح في بعض المحافظات أقل خطورة من التجوال بكاميرا، حيث يسمح في أي مكان حمل سلاح الكلاشينكوف لكن يثير المصور علامات استفهام بحمله للكاميرا، مما قد يعرضه لمساءلة وللتوقيف فضلاً عن مصادرة كاميرته، ذلك لأن غالبية أطراف النزاع يرون أن تأثير الصورة أقوى من تأثير السلاح”.