سوزان المحمود – الناس نيوز ::
“الأثر الفني لا يجيب عن الأسئلة إنه يقدمها” ليونارد بيرنشتاين
إن الزائر لمعرض حمود شنتوت الأخير في غاليري جورج كامل بدمشق، المتعبة ، يلاحظ أن المعرض يأخذ مسارين، الأول باتجاه الماضي والآخر باتجاه الحاضر، وعلى الرغم من أن المعرض أقيم تحت عنوان “من دمشق إلى باريس” إلا أنه كان في معظمه عن بحيرة كرتاي التي يسكن بقربها التشكيلي السوري شنتوت منذ سنوات وتقع جنوب باريس.
المسار الآخر، الحاضر، كريتاي “الهناك”
يتحدث “بيرجسون” عن حرية الخيال، فيقول إنها “حريات يرفع فيها العقل الكلفة مع الطبيعة”، في كريتاي يصور شنتوت جمال وروعة البحيرة وما حولها، لكنه الجمال الذي تسوره العزلة، إن المراقب لمجموعة اللوحات المتتالية التي رسمها شنتوت للمشاهد الطبيعية التي تصور البحيرة، سيفهم هذا، رصد الفنان في اشتغاله الفصول المتعاقبة على البحيرة، فقد اختبر أجواءها واستوعبها، في الشتاء والربيع، في الصيف والخريف، في الليل والنهار، في الشروق والغروب، ( لكنه لم يرصد الأوضاع الصعبة والمأسوية لأهل وطنه السوريين اللذين يعانون ويلات الحرب والانهيار الاقتصادي والاجتماعي على ما يقول أحدهم ، هل تجاهل ذلك ؟ يسأل ) ، ورغم أن البحيرة تعتبر وجهة سياحية يقصدها عدد كبير من الأشخاص، إلا أن شنتوت رسمها دون أناس إلا نادراً، إذ يمكنك أن تخمن الأثر البشري فقط، كما في لوحة قوارب بيضاء، رغم أنه أثر ضئيل جداً أمام حضور المشهد الطبيعي إنه مدغم في الطبيعة وليس ذا حضور حقيقي، وربما يمكنكم أن تشاهدو ظل شخص يقف وحيداً بقرب البحيرة، وفي لوحة أخرى ربما ترى سيدة مثيرة للحيرة تقف أمام النافذة تنظر نحو الداخل ربما باتجاهه، تاركةً خلفها الشرفة والمنظر الطبيعي الخلاب لأشعة الشمس الغاربة وهي تغمر الكون، وكأن هذا المشهد المهيب للغروب لا يعنيها.
في لوحة “موسيقا كرتاي” يتحول اللون إلى صوت، يتجرد اللون من كتلته وينساب مترقرقاً نحو المشاهد. لوحات كرتاي جميعها تتجه نحو الخارج (الطبيعة والفضاء الخارجي) إنها كرتاي شنتوت تماماً، مكان منعزل خالٍ من البشر يدعو للتأمل، يلتبس عليك الأمر إن كان شنتوت ينتمي لهذا المكان أم لا، بطريقة ما يبدو مراقباً من مسافة محددة، ويترك انطباعاً إنه خارجُ المشهد غالباً.
المسار الأول الماضي، الوطن، (الهنا)
وتمثل في ست لوحات حملت روحاً واحدة، وهي تحت العناوين التالية (حنين، السمندرة، الجامع الأموي، حمام الآرماني، شجرة النارنج، الكرسي الأحمر)، وتميز هذا المسار باستخدام الفنان اللون الأصفر المشرب بألوان ترابية، لخلق حالة مزاجية خاصة يمكن للعاطفة فقط أن تتلمسها.
لأنها تتسم بالألفة والدفء. الأصفر ذلك اللون القديم “ففي مصر القديمة، كان اللون الأصفر مرتبطاً بالذهب، الذي كان يعتبر غير قابل للفصل، أبدي وغير قابل للتدمير. وكان يُعتقد أن جلد وعظام الآلهة مصنوع من الذهب”.
إنه مرتبط بقداسة قديمة تخدم أجواء شنتوت الصوفية، الشرقية. يلامس شنتوت صور أماكن الذاكرة الجمعية بخفة ورشاقة كبيرة، كما في لوحة السمندرة، وهي تأتي من ذاكرة الطفولة، يقول باشلار: “حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي. هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي داخله.
سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت. وأود هنا، عابراً، أن أؤكد امتلاء وجود البيت. أحلام يقظتنا تقودنا إليه”. هذا ما تراه في لوحة السمندرة، ترى الألفة والحميمية، في اللحف الملونة المرتبة فوق بعضها البعض. كما ترى العائلة الكبيرة التي تسكن هذا المكان، ومن خلال أغطية نوم أفرادها يمكنك أن تتخيل وجوه الأطفال والأم والأب، الأسرة.
وإلى جانبها ترى كرسياً خشبياً وضع عليه غذائهم، كيس من القمح أو الطحين. ثم ترى معطف الأب معلقاً على الحائط. وربما تتخيل وجه الأب بكل القيم الإيجابية التي يحملها وهو عائد من عمله. والستارة التي تحجب جزءاً من السمندرة، ترى لقطة من بيت القرية التي ولد فيها الفنان، ويمكن أن يصلك شعورٌ مكثفٌ بالدفء والطمأنينة، والحماية والألفة.
بما أن “البيت هو ركننا في هذا العالم” حسب باشلار. وهذا ما يصلك من لوحة “حنين” بيوت القرية الترابية ذات القبب التي تموج بالأصفر الدافئ. الأجساد الإنسانية هنا تظهر كعنصر أصلي من عناصر المكان المأهول الموغل في القدم.
من دمشق القديمة، الأليفة، القريبة، البعيدة، التي تئن من الألم والعوز والفقر لدينا لوحة الجامع الأموي وحمام الآرماني، وشجرة النارنج، صديقة الفنان التي سترافقه طويلاً في رحلته. الشجرة التي تزين كل بيت دمشقي قديم والتي يعتبرها شنتوت “رمزاً للحماية والأمومة”.
نارنجته هنا تظلل امرأة بالغة الجمال وتتبادل معها الأدوار، كرمزين للخصوبة والعطاء.
في لوحة “حمام الآرماني” يظهر الحمام هنا كما يتذكره شنتوت فقط. قائماً وحيداً حالماً وممتداً، من زمن آخر وحياة أخرى، وكأنه اليوم ليس مهدداً بالإزالة يصارع وسط عزلته، تنتشر أنقاض ردم عند قدميه وتزحف باتجاهه محاولةً ابتلاعه.
بينما يصوره وكأنه قصر خارج من حكاية، ملك في محيط مسالم، يقف أمامه شخص ما وحيداً كملاكٍ حارسٍ للمكان. وثمةَ شبح شجرة في الطرف المقابل. الحمام يسبحُ في فضاءٍ من الضوء الأصفر مداخله معتمة. ممتدٌ كأنه مدينةٌ، يمكنك تخمين عدد الأجساد والأرواح البشرية التي استحمت واستراحت فيه منذ عقود طويلة.
يقول باشلار “إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط. بل بكل ما في الخيال من تحيز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية”.
في لوحة “الجامع الأموي” يصور شنتوت الأموي غارقاً في الوحدة مسربلاً ببقايا ضوءٍ، دون مصلين ودون أسراب حمامٍ، مهيباً وحزيناً كشيخٍ أعزل من مريديه، سماؤه ملبدة بالسُحب، تتوهج بعض زخارفه، محاولةً أن توقدَ فضاءً مطفئاً.
لوحة “الكرسي الأحمر” عنصرٌ وحيدٌ، لكنه دافئٌ، في فضاءٍ شاسع، رغم الدفء الشرقي الذي يغمر هذه المجموعة إلا أن مسحة الحزن الشرقي أيضاً لا تفارقها، كما لا تفارق عدداً كبيراً من أعمال شنتوت الذي ما فتئ يرتحل في مجازات اللون والضوء.
The post حمود شنتوت… الحنين كأثر والغربة كحضور! first appeared on الناس نيوز.