د. طالب سعد (باحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي)
يستمر صندوق النقد الدولي بإطلاق صيحاته في فضاء المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان، في حين ترد الأخيرة بسياسة النأي بالنفس عن كل الاصلاحات والمطالبات البديهية لأي دولة بحدها الأدنى، معلنة دون أن تعلن، مقاومتها الشرسة تجاه أي إصلاح أو رؤية أو خطة اقتصادية، جدية كانت أم هزلية، ترقيعية كانت أم جذرية، وكأنها تؤكد المؤكد، أن سياسة التدمير الممنهج سياستها، وحرق ودائع الناس وسيلتها، وإفقار المجتمع وإذلاله يخدم مصلحتها ورؤيتها.
لا يخفى على أحد أن أي مواطن لبناني عاقل بات يطالب ليل نهار بما يسمى بالاصلاحات المنشودة، وكأنه يتقاطع دون أن يدري مع اصلاحات يطالب بها صندوق النقد، مع تحفظي لسياسات الأخير التي لا أعول عليها لكنني لا أنكر ضرورة أجزاء منها خاصة لجهة ترشيد القطاع العام والحوكمة وعدم وجوب تعددية لأسعار صرف عملة واحدة في دولة من المفترض أن تكون واحدة.
وهنا لا بد أن نطرح بعض الأسئلة البديهية خاصة في علم المالية العامة وإدارة الدولة، من منطلق النية الصادقة لبناء وطن متمكن قادر، أو على الأقل يسعى لأن يطبق جزء من شعاراته لجهة الاستقلال والسيادة والكرامة والشرف.
وإذا كانت نظرية أن صندوق النقد الدولي ينفذ أجندة خاصة تورط الدول وتغرقها بالديون أكثر من إنقاذها وتطوير قدراتها الذاتية، علماً أن الصندوق يقدم وصفة شبه موحدة لمعظم الدول المتعثرة والتي في كثير من الأحيان نجدها متشابهة لجهة الفساد وعدم الاكتراث بتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، وسياسات اقتصادية تنموية تحسن من القدرة الشرائية للفرد، وتحفز على الاستثمار. إلا أن نظرية تعزيز الاقتصاد المنتج والاعتماد على الذات في الاصلاح وحماية المواطن اللبناني أو المستثمر، وطبعاً على طريقة المنظومة الحاكمة وأبواقها، تبقى أكذوبة ونفاق وهرطقة تجعل من الحائر ميالاً لسياسات الانتحار الآتية من بعيد مقارنة بسياسات النفاق الآتية من قريب.
فلماذا لم تصدر حتى اليوم موازنة العام 2023 والتي وبحسب المادة 83 من الدستور اللبناني أنه يجب في كل سنة وتحديدا في شهر تشرين الأول منها أن تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة لنفقات الدولة وإيراداتها عن السنة المقبلة على أن يصوت أو لا يصوت الأخير عليها. وبالتالي فإن موازنة العام الحالي كان من المفترض لها أن تولد منذ تسعة أشهر أي منذ تشرين الأول 2022 ليتم تقييم الأداء الحكومي والمالي من خلالها حيث أنّها من المفترض أن تترجم في تقريرها المالي الذي يتضمن خطة ورؤية الدولة الاقتصادية والاجتماعية وتوقعاتها من الإيرادات والنفقات لسنة مالية كاملة، ويتم إصدارها بشكل سنوي من قبل وزارة المالية في الدولة. فمن الذي يمنع الداخل الشريف من تطبيق الدستور وتكريس النظام في سؤال بديهي جداً والذي من خلاله ندرس كيفية تمويل الدولة وتثبيت عمودها الفقري لكل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنوي تطبيقها.
لماذا لم تخاطب القوى السياسية مجتمعة عبر نوابها ووزرائها ومستشاريها ووسائل إعلامها، المودع اللبناني والأجنبي، وتخاطب حملة السندات، وموظف القطاع العام الذي اعتاد الرخاء وقلة العمل والبحبوحة، وتخاطب المنتج الصابر على سياسات الضمان الاجتماعي المدمرة للعمل وقيمته، وكلفة إنتاجه التي استنفزتها كل وسائل الطاقة، وسياسات الضرائب المالية غير المفهومة والمنفرة لكل قوى الاستثمار، وتخاطب ثقافة من كره حمل العملة الوطنية التي باتت ثقلاً عجيباً لا يرغب الطفل الصغير باقتنائه، وتخاطب من فقد الثقة بمخافر الدولة وقصور العدل فيها حيث القوة لمن يحمل سلاحاً والضعف لمن يلجأ إلى القضاء..
لماذا لا نخاطبهم بخطة اقتصادية اجتماعية سياسية شاملة، تعيد الثقة ولو نسبياً ، قائمة على التمويل بالنمو بدل العجز، وقياس انتاجية السلطة السياسية ومحاسبتها، وجعل سعادة وكرامة الانسان عبر قوته الشرائية قياساً نميز من خلاله بين الراعي الصالح وراعي القطيع؟؟
ألم يحن الوقت يا سادة لإزاحة المنظومة التي تنئى بنفسها عن أي اصلاح، مطلقةً فقط للشعارات المنافقة والكاذبة التي لم تعد تسمن ولا تغني من جوع ولم تعد ترقى في عقول أغلب الناس حتى التي انتخبت تلك المنظومة إلى رتبة «لصوص الهيكل».
The post صيحات صندوق النقد وسياسة المنظومة في النأي بالنفس appeared first on جريدة الشرق اللبنانية الإلكترونيّة – El-Shark Lebanese Newspaper.