تتفاقم أزمة لبنان المالية والاقتصادية منذ خروجها الى العلن نهاية تشرين الأول/اكتوبر ٢٠١٩، من دون أن تلوح في الأفق اية مبادرات جدية تسمح بوقف الانهيار المتمادي الذي أطاح بجنى أعمار اللبنانيين ومدخراتهم، وضرب مقومات الاقتصاد الوطني وقلص من فرص نموه وتطوره. علماً أن الانهيار ومضاعفاته لم تقتصر على الجانب المالي والاقتصادي والقطاع المصرفي، بل شمل القطاع التربوي والاستشفائي بالإضافة الى القطاع السياحي، ليشمل الانهيار كل ميزات لبنان التفاضلية فيما يُهدد ما تبقى من مؤسسات عسكرية وامنية في البلاد.
وقد كان لجائحة كورونا التي ضربت لبنان مطلع العام ٢٠٢٠ تداعيات مالية واقتصادية بالقدر عينه لمضاعفاتها الصحية وربما أكثر، حيث رتبت مواجهتها والحد من انتشارها أعباء مالية كبيرة وتسببت بإرباك الأنشطة الاقتصادية لا سيما منها الانتاجية ما فاقم الازمة المالية والاقتصادية. وذلك في الوقت الذي بدأ فيه تعثر القطاع المصرفي وتدهورت قيمة العملة الوطنية، الامر الذي سرّع من تردي الأوضاع الاقتصادية وزاد من معدلات البطالة وتسبب في زيادة معدلات الفقر.
وفاقم الازمة وزادها تعقيداً انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب/اغسطس ٢٠٢٠، وكأنه لم يكفِ لبنان أزمته المالية والاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا، حيث تسبب الانفجار بخسائر مادية قُدرت بما بين ١٠ و١٥ مليار دولار أميركي. كما تسبب بدمار المرفأ وإهراءاته وطاول نحو ٥٠ ألف وحدة سكنية في المنطقة المحيطة به، بالإضافة الى مقتل ما يزيد على ٢١٨ شخصاً من بينهم المفقودون الذين لم يعثر لهم على أثر، وإصابة أكثر من ٧٠٠٠ آخرين، وحرمان نحو ٣٠٠ ألف شخص من المأوى.
وعلى الرغم من أن اسباب الازمة المالية والاقتصادية التي يُعاني منها لبنان، تكمن في حوكمة الاقتصاد الوطني وإدارة موارده المالية، الا أن ذلك لا يُقلل من مسؤولية الأطراف السياسية الممسكة بالسلطة عن الدرك الذي وصلت اليه الأوضاع المالية والاقتصادية للبلاد. سيما وأنها لم تبادر هذه الاطراف الى معالجات حقيقية فيما كانت تنتقل البلاد من أزمة الى أزمة أكبر وأشد تعقيداً، خاصةً بعدما تمكنت من العودة الى الندوة النيابية في انتخابات كان يُعول عليها في إدخال دم جديد في شرايين السياسة اللبنانية.
وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه فصول الازمة المالية والاقتصادية صعوبةً وتعقيداً، كانت الخلافات السياسية تتظهر وتصبح أكثر وضوحاً لتطال كل الملفات السياسية. فيما كانت الملفات الاقتصادية القاسم المشترك الوحيد بين أطراف السلطة، من اسقاط خطة النهوض الاقتصادي لحكومة حسان دياب وتمرير ترسيم حدود لبنان البحرية مع العدو الإسرائيلي الى التهرب من إقرار القوانين الإصلاحية، الى غيرها من الملفات التي تعود بالمنفعة المادية على هذه الاطراف مثل الفيول وغيره.
وليس من المبالغة القول إن الأطراف السياسية على اختلاف مشاربها كانت المستفيد الوحيد من الازمة المالية والاقتصادية، وهي لم تتردد في تأُجيل الانتخابات البلدية مرتين على التوالي مرة بحجة عدم توافر الاعتمادات المالية ومرة بسبب الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، فيما اجرت انتخابات نيابية استمرت بفضلها في الإمساك بالسلطة والغرف من مغانمها. وفي حين كان من المفروض أن تُشكل حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، حالت الخلافات السياسية دون ذلك وأبقت على حكومة تصريف اعمال شكلت فاتحةً للفراع في مواقع السلطات الدستورية.
ولا بد للمراقب من التساؤل كيف يُمكن للأطراف السياسية أن تتفق على تمرير اتفاق بحجم اتفاق ترسيم الحدود البحرية وتعجز عن الانفاق على تشكيل حكومة جديدة أو انتخاب رئيس للجمهورية. وهل يجوز الاستمرار بمخالفة القواعد الدستورية والقانونية وإدارة الدولة التي تتحلل مؤسساتها وتتلاشى سلطتها، بما تيسر من استثناءات قانونية وفتاوى تشريعية غب الطلب. سيما وأن سبب الازمة المالية والاقتصادية التي يُعاني منها لبنان تكمن في مخالفة القوانين والأنظمة المرعية الاجراء، وفي استباحة القيمين على المصلحة العامة القواعد القانونية وتجييرها لخدمة مصالحهم الشخصية تحت عناوين فئوية.
وعشية بلوغ قائد الجيش العماد جوزيف عون سن التقاعد مطلع شباط/فبراير ٢٠٢٤، تتزايد المخاوف من بلوغ الفراغ سدة قيادة الجيش في ظل الخلاف السياسي بين أطراف السلطة. مع العلم أنه لم يتم تعيين رئيس أركان خلفاً للّواء الركن امين العرم الذي احيل الى التقاعد منذ نهاية كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٢، وكذلك هو الحال بالنسبة لباقي أعضاء المجلس العسكري الذين احيلوا الى التقاعد. وبينما تكثر الاستشارات القانونية والآراء الفقهية المخالفة لمواد قانون الدفاع، تنعدم الحلول العملية لتضع الوطن برمته امام مفترقٍ بالغ الخطورة وليس الجيش وحسب.
والأطراف التي عجزت حتى اليوم عن انتخاب رئيس للجهورية وتعيين رئيس للأركان ومدير عام للأمن العام وحاكم لمصرف لبنان وغيرهم، لن تتمكن من الاتفاق على تعيين قائد جديد للجيش اللبناني. في وقتٍ غدت فيه المؤسسات العسكرية والأمنية وخاصة الجيش اللبناني، الامل الوحيد في استعادة الدولة لدورها الطبيعي في حماية البلاد وإدارة مرافقها الحيوية وتحريك العجلة الاقتصادية والإنمائية.
وتأتي الحرب الاسرائيلية على غزة وتصاعد المخاوف من أن تطال لبنان، لتؤكد دقة المرحلة والمخاطر التي تحبل بها، وتستوجب ارتقاء الأطراف السياسية الى تغليب المصلحة الوطنية وتقديمها على غيرها من الاعتبارات والحسابات، والارتقاء الى مستوى التحدي الذي يفرضه الوضع المتفجر في جنوب لبنان، والذهاب الى انتخاب رئيس للجمهورية الذي يمهد الطريق لحل الازمات السياسية والاقتصادية على حدٍ سواء.
إلا أن خطورة المرحلة تفرض على هذه الاطراف أن تبعث برسائل طمأنة الى الجيش اللبناني قيادةً وافراد، خاصةً وأن التحديات التي يواجهها الجيش لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني، بل تشمل الجانب الاقتصادي وما يعانيه الجيش ضباطاً ورتباء وافراد من تدني للقدرة الشرائية لرواتبهم. ولعل أكثر ما يُطمئن قيادة الجيش هو تطبيق قانون الدفاع لجهة سد الشغور في الوظائف القيادية لا سيما منها رئيس للأركان.
أما بالنسبة لقائد الجيش العماد جوزيف عون فلا بد من التمديد له في سدة القيادة بقانون يصدر عن المجلس النيابي، خاصة وأن البلاد في حالة طوارئ غير معلنة تستوجب هذا التمديد، وضرورة مثُابرة قائد الجيش على القيام بمهامه في هذه اللحظة البالغة الخطورة، فأهل مكة أدرى بشعابها.