بقلم مروان اسكندر
خلال الاشهر المنصرمة اقرت السلطات الاميركية عقوبات على روسيا كما اقرت مساعدات عسكرية ومالية لاوكرانيا لمواجهة اعباء الحرب.
ومن بعد اقرت عقوبات على الدول والشركات الكبرى التي لا زالت تتعامل مع روسيا، وتوسع شمولية العقوبات الاميركية يدعو الى السؤال هل انها مبررة، وهل هي يا ترى في حال استمرارها وتوسعها تناقض استهداف تحرير التجارة من العوائق واستهدافات اتفاقيات بريتن وودز التي نتج عنها تأسيس صندوق النقد الدولي، وتأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي اختصر اسمه للبنك الدولي دون تبديل مهماته، بل بالفعل مع توسيع نشاطاته ومجالات اهتمامه.
اجتماعات بريتون وودز وهي منطقة سياحية واقعة شمال مدينة نيويورك شمل ممثلين لجميع الدول المحاربة ضد المانيا النازية واليابان الامبريالية وتوقيت الاجتماع كان الهدف منه استشراف التطورات الدولية، وحظي المؤتمر الذي كان ضمنًا برئاسة الولايات المتحدة ومساندة بريطانيا بآراء الاقتصادي البريطاني المعروف كينز والاقتصادي الاميركي مارشال وكان توجه المؤتمرين ليبرالي اي يساند اجراءات تحرير التجارة العالمية والتشجيع على الاستثمار من قبل الدول المتمتعة بامكانات انتاجية ومالية في اعادة اعمار القارة الاوروبية واليابان، وبما ان الولايات المتحدة كانت تتمتع بأكبر طاقة انتاجية وبما ان الحرب لم تطالها الا في الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربور في هونولولو وبما ان الولايات المتحدة كانت تحوز عملة متحررة من القيود سوى الارتباط بتسعيرة الدولار تجاه الذهب، فالاحتياطي الذهبي لدى الولايات المتحدة كان يسمح لها بان توفر الذهب لسلطات اي بلد يتمتع بفائض على ميزان مدفوعاته على قاعدة استبدال اونصة الذهب ب35 دولارًا، واستمرت هذه الممارسة حتى الغائها من قبل الرئيس نيكسون اوائل السبعينات.
الانفتاح الاميركي على المساعدات للبلدان المتضررة مثل المانيا، وانجلترا، وايطاليا، وفرنسا في اوروبا كان مبادرة بديهية، والمساعدات ساعدت حكومات هذه البلدان على الصمود في وجه التوسع الروسي الذي سمح للقوات الروسية بالسيطرة على برلين، والمساعدات لليابان كانت سخية لان الاميركيين دمروا بالقنابل النووية مدينتين في اليابان هيروشيما وناغازاكي واقاموا قواعد جويو وعسكرية في اليابان، كما فعلوا اوروبيًا في المانيا، وانجلترا وايطاليا وحتى اسبانيا التي بقيت حيادية في الحرب العالمية الثانية وان كان لدى قائدها الشهير فرنكو ميل لالمانيا النازية.
مقابل المساعدات على اعادة البناء والتطوير في البلدان الاوروبية واليابان استغل الاميركيون فرص توسيع تجارتهم، واحتفظوا لانفسهم في اتفاقات بريتون وودز على حق النقض (فيتو) على اي قرارات تتخذ في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واشركوا بريطانيا في هذه المسؤولية.
كان عقد الخمسينات والستينات زمن التوسع الاميركي الذي ورطهم في حرب فيتنام لسنوات دون تحقيق انتصار فيها وواجهت الولايات المتحدة عجزًا على حساب ميزان مدفوعاتها دون ان تواجه عقوبات تتمثل في انخفاض سعر صرف الدولار، واول تحد للهيمنة الاميركية تجلى في اتفاق 6 دول اوروبية على انشاء سوق مشتركة تعزز التعاون بينهم وكان هذا الاتفاق عام 1966 وحتى ذلك التاريخ كانت بعض البلدان الاوروبية تعاني من نقص في الامدادات الغذائية ولم تبدأ تحديات في وجه الاميركيين وعملتهم الا مع بداية السبعينات، وارتفاع نفقات حرب فيتنام وتحقيق اليابان مستويات تكنولوجية في الصناعات الالكترونية وصناعة السيارات. واكتسبت المانيا شهرة في عالم السيارات وتحقيق فوائض على حساب المدفوعات مقابل العجز المستمر في حسابات ميزان مدفوعات الولايات المتحدة الذي دفع الرئيس نيكسون الى ايقاف برنامج توفير الذهب بسعر 35 دولارًا للاونصة لكل بلد يطالب بهذه المعاملة.
ازمة انهيار الثقة بالدولار لم تظهر بوضوح حتى اوائل السبعينات لكن البلدان التي اصبحت تتمتع بفوائض مثل المانيا واليابان كانت تلجأ الى استثمارات في السندات الاميركية الامر الذي استمر في دعم سعر صرف الدولار.
شهر كانون الاول عام 2022 شهد اول نداء من حاكمة البنك المركزي السيدة يلين التي هي اليوم وزيرة مالية الولايات المتحدة. منذ عام وثلاثة اشهر طالبت الحاكمة للبنك المركزي الاميركي الكونغرس بزيادة سقف المديونية الاميركية، وفي حال تمنع الكونغرس عن ذلك انذرت النواب والشيوخ بان الولايات المتحدة ستتوقف عن دفع معاشات موظفيها او دفع قيمة السندات الحكومية المستحقة قبل نهاية عام 2021.
السيدة يلين التي هي اليوم وزيرة المالية في الولايات المتحدة اعادت وطلبت سقف الاستقراض الاميركي لتجنب متاعب العجز من جديد واليوم يحاول الرئيس بايدن الحصول على اغلبية في الكونغرس، والتي لا يحوزها حزبه الديمقراطي كي تتفادى الولايات المتحدة التوقف عن الدفع وانخفاض قيمة سعر صرف الدولار.
الولايات المتحدة اليوم مدينة بأكثر من 32 تريليون دولار والمطلوب زيادة السقف الى 34 تريليون او 35 تريليون دولار، والواقع ان دين الولايات المتحدة يتجاوز نسبة 40% من الديون العالمية المترتبة على اهم الدول. فاليابان مثلاً مدينة بما يساوي 250% من دخلها القومي، والمانيا الدولة الاكثر محافظة على السياسات المالية وثاني اكبر دولة مصدرة في العالم بعد الصين، مدينة بنسبة 120% من دخلها القومي، وفرنسا 130% وايطاليا ما يزيد على 150%. اوضاع هذه البلدان تسمح للأميركيين الاستمرار في زيادة دينهم كما سيفعلون على الاغلب.
نعود هنا الى ممارسات الولايات المتحدة سياسات فرض العقوبات، وهي اليوم تفرض عقوبات على الشركات الغربية العاملة في روسيا وتطالبهم بتوقيف مصالحهم عن الانتاج، وهي لجأت كما بين كاتب صحافي معروف في الولايات المتحدة الى اقرار نسف انابيب نقل الغاز الروسي الى اوروبا، وكنت اشرت الى هذه الامكانية قبل نشر تفاصيلها في الشرق الاوسط بقلم الخبير النفطي الدكتور وليد خدوري، وكان وزير الدفاع السويدي قد اعلن انهم تأكدوا ان عملية نسف انوبي الغاز الذين يمتدان عبر المياه الاقليمية السويدية نحو بولندا وألمانيا عمل تخريبي محترف لا يتوافر الا لدول.
لو حدث هكذا عمل تخريبي لمصالح اميركية لكان ادى الى حرب لا يعرف ايًا كان تاريخ انتهائها، لكن القيادة الروسية تمنعت حتى عن اتهام الولايات المتحدة لاسباب متعددة من اهمها ما يلي:
روسيا تتمتع بثاني اكبر احتياطي ذهبي في العالم. وامتداد القارة الروسية يمكن ان يستوعب ملايين السكان
وتمتلك روسيا ثاني اكبر احتياطي عالمي من الغاز الذي يزيد الطلب عليه لاسباب بيئية.
وروسيا تتمتع بأكبر جسم مائي صافي المحتوى في العالم وطوله يتجاوز المسافة بين لبنان وقبرص وعمقه في بعض جوانبه يفوق ال1400 مترًا، ولو شاءت روسيا تسويق مياهها العذبة من هذه البحيرة الفريدة في حجمها ونقاء مياهها لاستطاعت الاستغناء عن تصدير النفط والغاز دون اي متاعب.
اخيرًا روسيا حذرت من دعم اوكرانيا عسكريًا في اربعة جلسات لمؤتمر السلم العالمي الذي تعقده المانيا كل سنة والرئيس بوتين طالب المؤتمرين لأربع سنوات بترداد ان يبتعدوا عن ضم اوكرانيا لحلف الناتو وتجهيزه بالصواريخ البعيدة المدى. فالقسم الشرقي لاوكرانيا غالبية سكانه اصلهم روسي كما اللغة التي تسود محادثاتهم وبرامجهم الدراسية، لكن تحذيرات بوتين لم يؤخذ بها ولم تحمل على محمل الجد.
ظاهر الامور يبدو ان بعض البلدان الاوروبية والآسيوية بدأت تشكو من التعديات الاميركية التي تناهض مبادئ الاقتصاد الحر، وللذكر احدى اكبر الشركات الاميركية للاتصالات كانت تعمل في المانيا بتاريخ اندلاع الحرب العالمية الثانية وظلت تعمل في المانيا حتى عام 1943 دون انقطاع.
The post ممارسة العقوبات الاميركية والنظام الاقتصادي العالمي appeared first on جريدة الشرق اللبنانية الإلكترونيّة – El-Shark Lebanese Newspaper.