18 April, 2024
Search
Close this search box.
حتى لا تُصبح إيرادات لبنان المرتقبة من النفط والغاز لعنة
Spread the love

بعد ترسيم الحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية في نهاية العام 2022، نجد انه من المفيد الإشارة الى أنّ الثروة الموعودة من نفطٍ وغاز دونها عقبات جمة وانعكاساتها على الاقتصاد الوطني عند استخراجها لا تقتصر على الإيجابيات لا بل تشمل سلبيات. وتتراوح العقبات بين الصعوبات التقنية والمعوقات الجيوسياسية وهي تسبق عادةً المباشرة بالإنتاج، بينما تتبلور انعكاسات الإيرادات الإيجابية منها والسلبية على الاقتصاد بعد المباشرة به.

وتتعلق الصعوبات التقنية بطبيعة طبقات الارض المستهدفة بالحفر وتوافر التقنيات المناسبة، اما استثمار النفط والغاز فيتوقف على تحقيق اكتشافات تجارية تعوض كلفة عملية الاستخراج وتحقق معدلٍ مجزٍ من الأرباح. وعلى أهمية الإحاطة بالصعوبات التقنية التي قد تعترض اعمال الحفر والتطوير وعملية الاستخراج، قد تكون الإضاءة على المعوقات الجيوسياسية وانعكاسات إيرادات النفط والغاز على الاقتصاد الوطني موضع اهتمام أكبر من قبل المتابعين.

وتتمثل المعوقات الجيوسياسية على سبيل المثال، في التوقف غير المبرر لشركة Total Energies عن الحفر في الرقعة رقم 4 وقبل التوصل الى نتيجة نهائية حول توافر الغاز من عدمه، وكذلك في امتناعها عن مباشرة الحفر الاستكشافي في الرقعة رقم 9 الواقعة جنوب المنطقة الاقتصادية الخالصة بانتظار الاتفاق على ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية مع إسرائيل.

علماً أنّ ان توقيع اتفاق الترسيم لا يعني بالضرورة أنه تم وضع نهاية للضغوط الجيوسياسية على لبنان حيث تحرص إسرائيل ومن يرعاها بشكلٍ مباشر وغير مباشر على تأخير مباشرة لبنان استثمار ثروته النفطية، يُساعدهم في ذلك استمرار خلافات الافرقاء السياسيين وتقديمهم مصالحهم الشخصية والفئوية على المصلحة الوطنية.

وتُعرف الانعكاسات السلبية لإيرادات النفط والغاز على الدول المنتجة بلعنة الموارد، وكانت هولندا من أوائل الدول التي عانت منها حتى سُميت هذه اللعنة بالمرض الهولندي. وتواجه الاقتصادات المعرضة للعنة الموارد خمسة تحديات تواكب الانتاج تكمن في تحسن سعر صرف العملة الوطنية ومفاعيله التضخمية، إهمال قطاعيّ الصناعة والزراعة الإنتاجيين، تبلور أنماط غير مستدامة للادخار والاستثمار وعدم كفاية الادخار بالإضافة الى التكيف المتأخر مع الانكماش الذي يلي طفرة الايرادات.

وتزداد مخاطر لعنة الموارد في الدول التي تعاني من ضعف مؤسساتها وغياب الحوكمة الرشيدة في استثمار إيراداتها وتفشي الفساد وسوء الإدارة، حيث تُشكل نيجيريا التي لا تزال تتخبط بفقرها بالرغم من وفرة مواردها النفطية، نموذجاً لهذه اللعنة. وبينما تُرتب إيرادات النفط والغاز في الدول المتقدمة مضاعفات تضخمية وتباطؤ في القطاعات الإنتاجية، يبدد الفساد وسوء الإدارة في البلدان النامية هذه الإيرادات ويحول دون استخدامها في تنمية وتطوير اقتصاداتها ومجتمعاتها التي تزداد تخلفاً وفقراً.

وفي حين أن لا خشية على لبنان من مضاعفات المرض الهولندي، لإهمال الاقتصاد اللبناني الأنشطة الإنتاجية واقتصار صادراته على نسبة ضئيلة بالمقارنة مع مستورداته، يُشكل الفساد وتلاشي الدولة اللبنانية وتحلل مؤسساتها الخطر الأساسي الذي يُهدد بضياع إيرادات النفط والغاز الموعودة. ويعزز هذه المخاوف الدرك الذي وصل اليه لبنان على الرغم من تدفقات مالية بلغت ما يُقارب الــ 800 مليار دولار منذ مطلع التسعينيات، تدفقات لم تَحُل دون نمو الدين العام ولم تُساهم في تشجيع القطاعات الانتاجية.

في المقابل، يُعول على التدفقات النقدية التي تولدها إيرادات النفط والغاز في تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة الاقتصادية والاجتماعية التي تلبي احتياجات الأجيال الحاضرة مع الحفاظ على حق الأجيال القادمة في ثروتهم الوطنية. ما يتطلب ادخار واستثمار جزء من الإيرادات بحيث تكفل للأجيال القادمة حياة كريمة. الامر الذي يستوجب قيام الدولة القادرة على فرض القانون وتحقيق العدالة والتنمية، الدولة المتحررة من الفساد السياسي والاداري والعاملة على بناء اقتصاد وطني منتج ومتنوع.

ذلك أن الحؤول دون تداعيات لعنة الموارد يتطلب قيام دولة القانون والمؤسسات التي تكون فيها جميع السلطات تحت القانون، سواء كانت تشريعية أم تنفيذية أم قضائية، والكلمة الفصل فيها للقانون الذي يعلو ولا يُعلى عليه، وتسود فيها المساءلة والمحاسبة وتكفل الشفافية وحق الوصول الى المعلومات. كما يحتاج النمو والتنمية الى سلطة قضائية تتمتع باستقلالية ومصداقية، تعمل على احقاق الحق وانفاذ العدالة بين المواطنين.

ودولة القانون وحدها هي القادرة على محاربة الفساد السياسي والاداري والحؤول دون المتربصين بالمال العام ودون تحقيقهم المكاسب على حساب الوطن وابنائه. ما يستدعي إقامة محاكم خاصة للنطر بقضايا الفساد تتمتع بصلاحيات واسعة في ملاحقة المرتكبين، ويُفترض ان تتميز بسرعة بتها للقضايا المرفوعة امام قُضاتها لتكون احكامها عبرةً لكل من تخوله نفسه التطاول على المال العام.

وتتطلب مكافحة الفساد السياسي والإداري تفعيل دور ديوان المحاسبة ورفده بالكفاءات والاختصاصات المناسبة للقيام بالمهمة الموكلة اليه في مراقبة الانفاق العام والتأكد من تقيد عاقدي النفقات وكل من له صلة بالشراء والاستلام والتخزين ومسك القيود بالأصول القانونية والمحاسبية. كما يشمل تفعيل ديوان المحاسبة تطوير وسائل المراقبة وتسريعها من اعتماد البرامج الالكترونية المتطورة ونظم الدفع غير النقدي التي تعزز الشفافية وتسهل اعمال المراقبة والتدقيق.

ويستدعي التغلب على لعنة الموارد، بناء اقتصاد منتج يُعيد الاعتبار الى النمو المتوازن الذي يستوجب العمل على تنمية شتى القطاعات الانتاجية والاستفادة من تلك التي تتمتع بميزات تفاضلية فيها لدعم باقي القطاعات وتطويرها. ومن الأولى ان توضع الخطط الاقتصادية المناسبة للاستخدام الامثل للعائدات النفطية المرتقبة، وهي أحد أبرز مصادر الريع، على أن تأخذ هذه الخطط في الاعتبار بناء اقتصاد متنوع تلعب فيه القطاعات المختلفة ادواراً تكاملية.

ويُشكل صندوق الثروة السيادي المحفظة المالية والذراع الاستثمارية لدولة القانون والمؤسسات، بهدف استثمار جزء من إيرادات النفط والغاز ومراكمتها كأصول مادية وخاصةً بالعملات الأجنبية. ما يسمح بالمحافظة على هذه الثروة على شكل احتياطات مالية منتجة تغطي جزءاً من الانفاق الجاري، مستخدمةً أكثر من استراتيجية استثمار، لتحقيق عوائد مالية معينة تتوافق مع أهدافها والحفاظ على الاصول لتشمل فوائدها الأجيال القادمة.

في المقابل، إنَّ أداء الطبقة السياسية وحكوماتها المتعاقبة يدفع المراقب الى عدم التفاؤل بقرب إيجاد الحلول للازمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، ويدفعه الى عدم المراهنة على قدرة هذه الطبقة على وضع البرامج المناسبة لمستقبل الإيرادات المرتقبة من النفط والغاز والحؤول دون لعنة الموارد. ما يجعل من التغيير الجذري والشامل السبيل الوحيد لنهوض لبنان من كبوته، تحل معه دولة القانون مكان دولة الّا قانون، ودولة المؤسسات مكان دولة المحسوبيات. وتسود دولة يكون الدستور فيها المرجع والقانون المعيار، ويتولى المسؤولية فيها ذوو الكفاءة لا الاقارب والازلام، وتكون فيها الشفافية والمساءلة والمحاسبة عناوين لأدائها

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات