30 March, 2024
Search
Close this search box.
“كاداريه” فوتوشوب وأحلامنا…
Spread the love

غادة بوشحيط – الناس نيوز ::

سنة 1989 سقط جدار برلين، وصدرت أول نسخة من برنامج “فوتوشوب”، في حين صام الألباني “إسماعيل كاداريه” 1936 عن الكتابة.

هلل العالم لسقوط الجدار الإسمنتي، زلزل وقوعه زوايا العالم، واختصرها في قبلة واحدة، ألهمت فوكوياما نبوءته الشهيرة “نهاية التاريخ”، فقد انتصر العم سام أخيراً، وكسب رهانه في بسط نفوذه، بعد عقود من الإصرار.

أخذ “فوتوشوب” يزحف على خارطة صور العالم، سرعان ما اعتمده المشتغلون بفنون التصوير حليفاً “استراتيجيا”، يرسم وجوها مثالية، يقضي على كل الشوائب بمعناها البشري الأول، ويدفع عجلة رأس المال وأسواقه.

كان كاداريه وقتها يبحث على الأرجح أمر الاستقرار بمنفاه الاختياري في فرنسا، بعد سنوات من الرفض القاطع، ويتقدم في إنجاز كتابه “الربيع الألباني” وهو يرى الديكتاتورية التي رفعته لدرجة عدو الدولة الأول ترتعب من المصير الذي ينتظرها وسيتسبب في سقوطها النهائي ثلاث سنوات بعدها.

لم يكن غالباً يتوقع أن يتم اقتراح اسمه ليصبح الرجل الأول في ألبانيا بعد سقوط الشيوعية، كما لم يكن مخترع فوتوشوب يتوقع أن يتحول البرنامج الذي طوره مادة للتحليل النفسي على المتأثرين بكمال/ زيف صور الإعلانات من وجوه وأجساد، ورديفاً للتحولات العميقة التي سيعرفها العالم.
كان عالم التكنولوجيات يعلن انتصاراته الصغيرة باحتشام، لم ير المصورون في فوتوشوب غريماً بل تعزيزاً دفاعياً لقدراتهم الفنية، وفتحاً لأسواق جديدة، لم يتصوروا أن وكالات الأنباء ستعوضهم بعد عقد بالكاد بهواتف نقالة توزعها على أشخاص من ساكنة مناطق الحروب للحصول على أنباء أصدق بأثمان أقل، بعد أن عاشوا فرساناً لأزيد من قرن، جعلوا من الصورة أصدق الكلام، ولا أن يختفوا من الخارطة بعد أن تطورت فنون الصور المصطنعة افتراضياً، وتبلورت، بل غدت سوقاً له قواعده، يحقق بالصور الأحلام المستحيلة حتى الأمس القريب.

أما كاداريه فظني أنه لم يكن يتخيل حتى أن تتحقق نبوءة إحدى أهم أعماله منزاحة عن شرط وجودها الأول. أصدر الروائي الألباني الأشهر أحد أهم أعماله: “قصر الأحلام” سنة 1981، وهي الرواية التي ستمنع في بلده سنين طوال وتحكي قصة الشاب “مارك عليم” الذي سيعين ب”السراي تابيل”، أحد أهم مؤسسات الحكم العثماني، حيث تجمع أحلام الناس، ويشتغل الموظفون هناك على نسخها، تنقيحها وتأويلها، ويعقد الحاكم شخصياً جلسة أسبوعية مع مسؤوليه لنقاش أهمها.

يصف الكاتب حالة الرعب التي سيعيشها الشاب، ربما منطلقاً مما عايشه هو كنائب برلماني ومقرب من رئيس الحزب الحاكم وزوجته، إذ سينقل للقارئ جملة التساؤلات الغريبة والعقيمة التي سيضطر الشاب “عليم”، الذي سنكتشف انتسابه لإحدى أهم العوائل، وما سيصيبه جراء هذا الانتساب بتقدم أحداث الرواية، الدخول في حالة من الجمود والذهول والسلبية لهول ما عايش، رغم ارتقائه القياسي سلم الوظائف المرموقة، وخوفه المستمر في أن يكون قادم الضحايا، إذا ما حدث وأخطأ في تأويل حلم، أو لم يهتم بأمر أحدها.

ورغم تأكيد الكاتب عن انتفاء العلاقة بين هذه الرواية وواقع ألبانيا “أنور خوجة”، إلا أن الأمر لم يفد في منع فرض الرقابة عليها.

أصادف يومياً إعلانات لمنتجات أو خدمات أكون قد سألت الأصدقاء من حولي عما يشبهها، عبر تطبيقات الدردشة المتنوعة، أو حتى تحدثت عنها وجهازي المحمول بجانبي.

يبدو الأمر لوهلة مسلياً وبسيطاً، بل مريحاً ومغنياً عن البحث المضني، تتحول فيه أحلامنا إلى حقيقة، بمجرد أن نعلن عنها، كما تنبئنا الدراسات بغد تصير فيه التكنولوجيا ليست بالمسؤولة عن تحقيق أحلامنا فحسب، بل اختراق واختلاق هذه الأحلام والتحكم فيها، بعد أن نجح علماء في إعادة إنتاج صور أحلام بشر دون حاجة للفوتوشوب الذي وإن عرف عملية تجديد وتجميل، إلا أنه يكاد يصبح بلا جدوى في ظل أخطبوط التكنولوجيا الزاحف على وجه العالم، أشبه بحصان طروادة، طويلاً ما غمت الأصوات المرتفعة للتنبيه بمخاطره، لنجد أنفسنا محاصرين، بعد تجربة شهور طويلة من الحياة الرقمية المفروضة قسراً نتيجة الإغلاق الوبائي الكبير، وترتفع الأصوات متأخرة مطالبة بإعادة النظر في إيقاع التطور الذي يبدو أنه سيصادر أصواتنا كما حريتنا في الحلم، بعد أن نكون قد صرنا عبيداً للذكاء المصطنع ( هذا الأمر من مواصفات العصر وقد لا يصفه البعض بان البشر عبيدا للذكاء المصطنع الخ ، على سبيل المثال الكثير من العالم كان ضد فكرة ادخال التلفزيون إلى المنزل لانه يسهم في تغيير القيم ، لكن الان لا يوجد منزل دون جهاز تلفاز ، نفس الشيء أجهزة الاتصالات ) .

الذي يبدو جلياً أنه لا يتأثر بعوامل الزمن، لا وعي له ولا أخلاق، عكس “مارك عليم”، لا يشعر بالكدر وهو يسلب خصوصياتنا، أما ذاكرته فلا تستنزف سوى المزيد من المقدرات البيئية للبشرية، عكس ذاكرة كاداريه التي يبدو أن الهشاشة قد أتت عليها قبل أن يحقق حلمه في بلوغ سن التسعين.

The post “كاداريه” فوتوشوب وأحلامنا… first appeared on الناس نيوز.

التاريخ

المزيد من
المقالات