23 April, 2024
Search
Close this search box.
أسـبَاب الجنُوح الى الدولَرة ومخَاطرها
Spread the love

الانهيار المتمادي الذي يُصيب العملة الوطنية يُعيد الى الاذهان مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية الى ما يزيد عن الــ 450 ليرة لبنانية في نهاية العام 1987 بعدما كان لا يتعدى الــ 6,8 ليرات في العام 1982. وهي الفترة التي شكلت فاتحةً لارتفاع سعر الصرف حيث بلغ 842 ليرة في نهاية العام 1990، وتخطى الــ 2800 ليرة في العام 1992. وإذا ما أمعَّنا النظر في الأسباب التي أدت الى انخفاض قيمة العملة الوطنية في ذلك الوقت نجد أوجه شبه عميقة مع ظروف وأسباب الانهيار الحالي وتداعياته.

تزامن انهيار سعر صرف العملة الوطنية ابتداءً من العام 1984، مع تنامي كل من­ عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات في الفترة 1983-1984، وهما تطوران يُرافقان في غالب الاحيان تقهقر قيمة العملة الوطنية وارتفاع سعر الصرف. وقد توسع وازداد الإنفاق العام خلال تلك الفترة بنسب لم يعرف لبنان مثيلاً لها من قبل، من دون الأخذ بالاعتبار عدم توفّر موارد كافية لهذه الغاية. ما دفع بالحكومة الى الاقتراض من المصرف المركزي ومن المصارف التجارية لتمويل انفاقها. وقد تضاعف بنتيجة ذلك حجم الدين العام خلال عام واحد، حيث ارتفع من أقل من 7 مليارات ل. ل، في آخر العام 1981، إلى أكثر من 14 مليار ل. ل، في آخر العام 1982.

وأدى اقتراض الدولة من المصارف التجارية الى الحد من الرساميل المتاحة امام القطاع الخاص وتراجع حجم الاحتياطي بالعملات الصعبة، في وقتٍ كانت قد تراجعت فيه إيرادات الدول النفطية على مدى ثلاث سنوات متتالية في الفترة 1983-1985، ما أدى إلى تقليص حجم التحويلات من الخارج التي طالما اعتمد عليها الاقتصاد اللبناني. وكانت هذه التحويلات قد شكلت طوال فترة الــ 1979-­1982، ما يوازي نصف الدخل الوطني. الامر الذي أدى الى ارتفاع سعر الصرف نتيجة لزيادة الطلب والحاجة الى الرساميل، وذلك مع حلول خريف العام 1984.

في المقابل لم ينعكس تراجع حجم التحويلات على حجم الاستيراد خلال نفس الفترة 1983-1984، حيث حافظت الواردات على مستويات مشابهة لتلك التي كانت عليها خلال السنوات السابقة. ما أدى الى تفاقم عجز الميزان التجاري، وظهور عجز في ميزان مدفوعات السنتين السابق ذكرهما ليبلغ على التوالي، 933 و1242 مليون دولار. ويعود سبب العجز الى استمرار النمط الاستهلاكي على ما كان عليه بالرغم من شح التحويلات الخارجية، والامر عينه ينطبق على استمرار الدولة في انفاقها على نفس المستوى الذي كان معتمداً أيام البحبوحة المالية.

واليوم على والرغم من الازمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ نهاية العام 2019، سجل الاستيراد في العام 2022 معدلات مرتفعة تخطت الــ 19 مليار دولار في حين اقتصرت الصادرات على 3 مليار دولار أميركي. واستمر الدين العام بالتزايد ليبلغ في نهاية شهر آب من العام 2022 ما يُعادل الــ 103,65 مليار دولار مقارنة بما كان عليه في شهر آب من العام 2021 حيث زاد بنحو 4.9 مليار دولار وبنسبة 4.97%، بعد ان كان في نهاية العام 2019 قُرابة الــ 91.64 مليار دولار. اما قيمة الجزء المحرر منه بالعملات الأجنبيّة فقد بلغ ما يُقارب الــ 40.22 مليار دولار مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 4.42% عما كان عليه في نهاية آب 2021، وبعد ان كان يقتصر على 38,41 مليار دولار في الفترة عينها من العام 2019.

والمفارقة أنّ السلطة السياسية لم تتعلم من تجربة الثمانينيات والكلفة المرتفعة لسياسات الانفاق العام التي تعتمد على القروض سواء المحلية منها او الخارجية، التي لا تراعي الإيرادات المتاحة من الضرائب والرسوم والقدرة على تسديدها والوفاء بالتزاماتها. وكانت سياسات الانفاق السابقة أدت الى ان تعيش الدولة على التسليفات التي يوفرها مصرف لبنان ابتدأً من العام 1985 بحسب تعبير حاكم مصرف لبنان ادمون نعيم في العام 1989، فيما هي تعيش اليوم على طباعة النقد من قبل مصرف لبنان ايضاً وتبعاتها التضخمية.

ويُرجع الخبراء أسباب انهيار سعر صرف العملة اللبنانية إلى موجة الهروب من النقد اللبناني (flight from money) اعتباراً من العام 1984، التي تمت من خلال استبدال العملة اللبنانية بالعملات الصعبة، والهروب كان قد بدأ منذ العام 1983. أما اللجوء الى العملات الأجنبية ولا سيما الدولار الذي يتمتع بقبول على نطاق واسع على مستوى التعاملات الداخلية والخارجية على حد سواء، فقد كان نتيجة التضخم الذي هو انعكاس لانهيار العملة الوطنية، والدولرة ترتبط ارتباطاً طردياً ووثيقاً بالتضخم وكلما ارتفع التضخم ازداد الجنوح الى الدولرة.

اما الهروب الأخير من العملة الوطنية فقد بدأ في العام 2020 بعد أن كان يتم على نطاق ضيق من قبل العالمين بدقة الوضع المالي اللبناني بعد الموجة الاولى وحتى العام 2019. الا أن ما زاد الطين بلة هو تهريب القيمين على الشأن العام ودائعهم من العملات الاجنبية الى الخارج، اعتباراً من النصف الثاني من العام 2019، ما دفع باللبنانيين الى الهروب من العملة الوطنية الى الدولار الأميركي وغيره من العملات الاجنبية. ليتجدد مع موجة الهروب الجديدة وموجة التهريب المستجدة مسلسل انهيار العملة الوطنية بالتوازي مع ارتفاع نسبة التضخم والمستوى العام للأسعار.

وقد شكل اقفال المصارف نهاية العام 2019 راس جبل جليد الازمة التي يتخبط بها لبنان، وكشف جوانب الازمة المالية التي كانت تنمو في الاقتصاد اللبناني بشكل متسارع منذ العام 2011. وجاء استمرار عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري اللذين مهدا لانهيار العملة الوطنية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، سبباً مباشراً للانهيار الجديد الذي تتشابه ظروفه ونتائجه مع الانهيارات السابقة.

الا أنّ المستجد في الازمة الحالية هو خسائر القطاع المصرفي او ما سُميَ بالفجوة المالية والتي قُدرِت بــ 72 مليار دولار بالإضافة الى هدر أكثر من 30 مليار دولار من احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية. وشكل تخلف الدولة عن تسديد سندات اليورو بوندز المستحقة في العام 2020 من دون مراعاة التداعيات المالية والاقتصادية لهذه الخطوة، سبباً اضافياً لتعقيد الازمة وتعميق مضاعفاتها على الوضعين المالي والنقدي.

فيما لم تُحقق سياسة تثبيت سعر الصرف التي اعتمدها مصرف لبنان على امتداد إثنين وعشرين عاماً ونيف، الاستقرار المطلوب للتحرر من سياسة التثبيت التي أضاعت على الاقتصاد الوطني فرص النمو المستدام الذي يوفره نمو قطاعاته الإنتاجية المختلفة. وقد كان للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة (1993، 1996 و2006) والازمات السياسية المتوالدة بالإضافة الى التفاوت في مقاربة الحلول الاقتصادية بين الأفرقاء السياسيين، دور أساسي في تبديد الجهود الهادفة الى النهوض الاقتصادي. بينما كانت تتراكم كلفة تثبيت سعر الصرف المرتفعة لتحرم الاستثمارات الاقتصادية والإنتاجية بشكل خاص، من التمويل بكلفة معقولة تسمح بمنافسة منتجاتها في الأسواق الخارجية.

وفي الوقت الذي تتطلب الحوكمة الرشيدة متابعة مفاعيل السياسات النقدية المعتمدة وتقييم انعكاساتها على النشاط الاقتصادي، استمرت سياسة التثبيت من دون ان يلحظ القيمون على هذه السياسة تصوراً للتخلي عنها والعودة الى آليات السوق لتعود معها العملة الوطنية مرآةً للاقتصاد الوطني. وجاءت الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان في ظل الضغوطات المالية من ناحية والسياسية من ناحية ثانية لتحول دون الأهداف المتوخاة منها، لا بل زادت من هشاشة الوضع المالي والنقدي للبلد وعززت مخاوف أصحاب الرساميل على توظيفاتهم فيه. 

وبينما لجأت بعض دول اميركا اللاتينية للحد من التضخم الى اعتماد سياسات مالية ونقدية تقشفية بهدف خفض عجز الموازنة، لجأ البعض الآخر الى تجميد الأجور والأسعار (Wages and prices freezing) بالتوافق بين الأفرقاء الاجتماعيين. الا أنّ المقاربة الاخيرة لم يُكتب لها النجاح على المدى الطويل على الرغم من نجاحها في دول مثل فرنسا، وذلك لافتقار الدول التي اعتمدتها للقاعدة الإنتاجية الوطنية. بينما حققت سياسات خفض عجز الموازنة أهدافها من خلال تخفيض حجم الكتلة التقذية المتاحة، حيث يترافق ارتفاع معدل التضخم مع نمو الكتلة النقدية. وكان لا بد أن يقترن خفض عجز الموازنة مع تثبيت سعر الصرف للحد من التضخم وآثاره المُضرة بالاقتصاد الوطني.

ولو أن مصرف لبنان استخدم احتياطياته لتثبيت سعر الصرف منذ اليوم الأول لانفجار الازمة السياسية والمالية في تشرين من العام 2019، لكان تمكن من لجم هذا السعر والحد من آثاره التضخمية. ولعل في الإجراءات التي ابتدعها مصرف لبنان وتدخله في السوق الموازية لجمع الدولارات ومن ثم ضخها من خلال منصة صيرفة، دليل على الفرصة التي كانت متاحة واضاعتها تباينات المسؤولين في مقاربة الحلول المتاحة من جهة وربما عدم الرغبة في استخدامها من قبل مصرف لبنان.

وعلى الرغم من أنّ الدولرة طاولت كل شيء في البلد وبعض ما شملته جاء بقرار من الوزارات المختصة، الا أنها تبقى دولرة جزئية طُبقت كأمر واقع (De Facto) أكثر منها كخيار يُعالج المضاعفات التي يُسببها التضخم على مختلف المستويات. وفي حين تُرك تسعير السلع والخدمات على عاتق التجار والمؤسسات المعنية، يتولى مصرف لبنان دولرة رواتب القطاع العام والمتقاعدين بحسب منصة صيرفة، ومن دون أن مراعاة للمساواة بين موظفي القطاع الخاص مع القطاع العام، فيما دولرة الرواتب مهددة بالتوقف بسبب الشح في الدولار النقدي تاركةً الجميع في مواجهة قدرهم.

الا أن الدولرة لا يُمكن ان تكون حلاً للازمة المالية والاقتصادية التي يتخبط فيها لبنان، بما تُشكله من خسارة للعملة الوطنية التي تمثل رمز للسيادة الوطنية وأداة اقتصادية للدولة يصعب تعويضها. والدولرة غير قابلة للتطبيق في غياب خطة شاملة يستعيد من خلالها مصرف لبنان التزاماته بالعملة الوطنية تجاه المصارف والأسواق المالية ويستبدلها بالدولار الأميركي من احتياطياته، في الوقت الذي تُشكل الفجوة المالية المشار اليها أعلاه مشكلة غير قابلة للحل في المدى المنظور.

وبينما الازمة التي يُعاني منها لبنان هي ازمة مالية واقتصادية، الا أنّ الحل لا بد أن يكون في البداية حل سياسي يضع حداً للتباينات السياسية بين الافرقاء، ويبلور مقاربة موحدة للحلول المالية والاقتصادية تبدأ بإرساء دولة القانون والمؤسسات التي تقوم على الحوكمة الرشيدة والمسائلة والمحاسبة ودولة عمادها حكومة الكترونية تُسهل وتُسّرع معاملات المواطنين، مقاربة تؤسس لقيامة لبنان واقتصاده وتُغلب المصلحة الوطنية على ما عداها وتعبر بلبنان الى النمو الاقتصادي والحداثة.  

مع العلم أن هذه القيامة لن تكون متاحة في القريب العاجل ولو تم الاتفاق السياسي بين الافرقاء غداً، وذلك بسبب حجم الخسارة المالية والاضرار الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد الوطني. فالتقشف وخفض النفقات والتقديمات فرضها التضخم وتراجع ايرادات الدولة في ظل عدم قدرتها على الاقتراض، اما سياسات التصحيح الهيكلي التي يشترطها صندوق النقد الدولي فقد أصبحت امراً واقعاً فيما الإصلاحات المطلوبة فيتهرب من تطبيقها المسؤولون عنها.

من هنا لا بد من:

  •  توحيد وتثبيت سعر صرف قابل للتعديل، من خلال التحكّم بالعرض والطلب على العملة الوطنية والعملات الأجنبية، ويترافق مع رقابة على حركة الرساميل.
  • إنشاء ادارة مستقلّة عن مصرف لبنان تقوم بتنظيم استخدام العملات الصعبة على أساس أولويات تتعلق باستيراد السلع والخدمات وغيرها من العمليات مع الخارج.
  • تقييد الاستيراد ليصبح عند مستوى تحويلات العاملين في الخارج، مما يحدّ من الطلب الإضافي على الدولار ويساعد في تثبيت سعر الصرف.

التاريخ

عن الكاتب

المزيد من
المقالات