25 April, 2024
Search
Close this search box.
كم قناعاً نحتاج لنعيش؟
Spread the love

د . منير شحود – الناس نيوز ::

يعدُّ تحقيق الذات هدف الشخصية الطامحة للتمايز عن حياة الجماعة، فلا تذوب فيها كلياً ولا تنفصل عنها تماماً، وهو ما يؤمِّن لها نمط حياة متوازنٍ وفعال. لكن ذلك لا يحصل إلا في مجتمع تحققت فيه درجة معقولة من الحرية والضمانات السياسية، بما يكفي ليشقّ المرء طريقه من دون الاضطرار لارتداء الكثير من الأقنعة التي تحمِّله المزيد من الأعباء النفسية، فيصعب على الآخرين التعرُّف على حقيقته، وقد يجد هو نفسه صعوبة في التعرّف على ذاته المستترة خلف طبقاتٍ من الحجُب.

الأقنعة نوعان، منها ما يتعلق بضرورة التكيف مع المجتمع، ومنها ما هو من طبيعة الأشخاص، ولو أن الأمرين متداخلان، فقد تختلط الأقنعة بحيث يصعب التمييز بين ما هو متأتٍّ من طبائع الأفراد أو ما هو ناجم عن عوامل اجتماعية خارجية، وبخاصة حين تسود علاقات غير سوية تفاقمها الأزمات الاقتصادية والحروب.

ففي مجتمعاتنا المتخبطة في كل أمر، والمتعثرة في النهوض من ركام الماضي وويلات الحاضر، يضطر الناس للتواري خلف أقنعة عدة، في محاولة لتجنّب النبذ المجتمعي الذي يتعرض له المتمردون على واقعهم، أملاً في تجاوز الكثير من القيود، والتعبير بصورة أكثر صراحة عن مشاعرهم وآرائهم. ومن الطبيعي أنه كلما قلّ عدد الأقنعة كلما صرنا أقل حاجة للكذب والنفاق وأكثر تصالحاً مع الذات.

أول هذه الأقنعة القناع الديني، فهو ضروري للتكيُّف مع الكثير من تفاصيل الحياة المتعلقة بمعتقدات الجماعة وممارساتها، حين تتعارض هذه التفاصيل مع الرؤية الشخصية المكتسبة بجهد ووعي ذاتيين. تزداد الحاجة إلى هذا القناع كلما اتّخذ التدين طابعاً شكلانياً طاغياً، كضربٍ من العادة والتقليد، ولو على حساب غنى المشاعر الروحية للأفراد، كما عند ممارسة الطقوس الجماعية في بعض الأوقات والمناسبات، حين يجب على الفرد التماهي بالجماعة.

القناع الثاني هو القناع السياسي، الذي لا تقل مساحة تأثيره عن سابقه في بلدان الاستبداد والرأي الواحد، ولو أن ارتداءه يمكن أن يقتصر على العمل في الفضاء السياسي، حيث يتجلى خطر الانكشاف، بينما يكتفي كثيرون بترديد جملة “ما دخلنا”، اتقاءً لما هو أخطر، وفي محاولة لتجنُّب الدوس على لغمٍ سياسي ما. لكن استمرار ارتداء هذا القناع لفترة طويلة، أو لعدة أجيال، قد يحوّل الفرد إلى كائن ممسوخ ومذعور، وما يرتبط بذلك من قلة الكفاءة وضعف الشخصية وتعميق القهر، وقد يصل الأمر إلى قولبة الفرد سياسياً وفكرياً، فيردد شعارات وأقوال ميتة ومسمومة، كونها “آمنة”. لكن مقولة “ما دخلنا” ستتحول في النهاية إلى كارثة محققة ويجرف أصحابها سيل التطورات.

وثمة قناع المغاير والمختلف، الذي يضطر لارتدائه مَن يشعر بأن أحاسيسه واهتماماته لا تتوافق والقالب الاجتماعي “الطبيعي”، كذوي الميول المثلية أو الاهتمامات غير المندرجة قسراً في القالبين المذكر والمؤنث، مع أن بعض هؤلاء قد يكونون موهوبين في مجالاتٍ عدة لامتلاكهم كلتا الخاصتين الإيجابيتين للذكورة والأنوثة. التمايز في هذه الحالة ليس مسألة خيار شخصي، فهو ذو طبيعة بنيوية وثمنه المزيد من الحصر والاكتئاب وتحجيم الروابط الاجتماعية للفرد، التي هي المصدر الرئيس للفرح والسعادة.

ويمكن الإشارة إلى نوع آخر من التقنُّع الذي يميّز الإنسان المقهور، فهو مبتسم أو مكفهر، وسلوكه يتراوح بين نوباتٍ من التسامح والخضوع المبالغ بهما، وبين نوباتٍ من الغضب والانفعال تتجلى فيهما ذاته المقموعة، حيث يكون على استعداد لممارسة أشكال مختلفة من العنف، لكن الكابح الأخلاقي يكون، على الأغلب، عالياً، ويعود الشخص لارتداء قناع الطيبة قبل أن يلحق الأذى بالآخرين.

قد يكون مثل هذا النموذج هو الأكثر حضوراً على المستوى الشعبي، وهو يمثل مرحلة انتقالية للوصول إلى درجة أعلى من التحكم العقلي. تتمثل نقطة ضعف هذه الشخصية في عدم استقرارها، فهي بحاجة إلى رمز ديني أو سياسي للاتكاء عليه، مهما كان وضيعاً، ما يفتح طريق الاستغلال والابتزاز على مصراعيه من قبل أصحاب المصلحة، الذين تحوِّلهم السلطة التي يحوزونها إلى أفراد عدوانيين بصورة سافرة، وهم يبحثون عن فرصة سانحة غالباً ما تتوافر في ظروف الحروب والأزمات الاجتماعية وغياب سلطة القانون.

ولكن من هو الشخص “السوي” في مجتمع غير معافى؟ لا جواب محدداً أو نهائياً عن هذا السؤال، ربما يكون الشخص المتصالح مع ذاته ومجتمعه إلى حدّ ما، الشخص الذي لا يخلو سلوكه من المتناقضات وبوسعه أن يعيش كل الحالات ويرتدي مختلف الأقنعة، وفقاً للظروف التي يمر بها أو تمر عليه، لكنه يستطيع دوماً مراجعة تصرفاته وعقلنتها في لحظة هادئة، فيساعد الآخرين ولا يتسبب بأذى مباشر لأحد خارج حالات الدفاع الغريزي عن النفس.

ما علاقة الحياة الافتراضية التي استجدت حديثاً في حياتنا بهذا الأمر؟ وما الذي يمكن أن يضيفه هذا النوع من الحياة إلى عالمنا، وقد حلّ العالم الافتراضي مكان الأحلام والتخيلات وجسَّدها جزئياً؟ في الواقع، لا تمثل الحياة الافتراضية مهرباً من تعقيدات الواقع المأزوم ووسيلة للخروج إلى عالم موازٍ نعيش فيه بحرية أكبر وحسب، إنما هي ميدان واسع للمعرفة، ما يخدم في إغناء الواقع والتأثير فيه بصورة غير مسبوقة. من جهة ثانية، تساعد مساحة الحرية الأوسع في الحياة الافتراضية على نزع الأقنعة أو وضعها، تبعاً لما يريد الفرد التحرر منه أو تكريسه، وهي، من هذه الناحية، لا تفيد كثيراً في تحقيق الذات، وقد تعيد انتشار أمراض الواقع على نحوٍ أكثر اتساعاً.

ما يزال في جعبتنا الكثير من الأقنعة التي يعدُّ استخدامها في المكان والزمان والمناسبين مقياساً للنجاح في عملية التكيف الاجتماعي. ومع أن الجهود الشخصية تساهم في الحد من عدد الأقنعة، إلا أن الكثير يتوقف على مستوى تطور المجتمع في نهاية المطاف، بما في ذلك سلامة بنائه الثقافي والسياسي.

The post كم قناعاً نحتاج لنعيش؟ first appeared on الناس نيوز.

التاريخ

المزيد من
المقالات